(الحمدلله. من ألف عام قال المتنبي: ما لجرح بميت إيلام!)
ثمة أخبار ترددت منذ ليليتين - وأحيانا الليل لايستر مايحدث- بأن مواطنا ليبيا صرفا اسمه بوعجيلة مسعود المريمي وصل إلى الولايات المتحدة سالما وبكامل قواه ومحفوفا بحراسة تسير بين جنبيه وحل إحدى الزنزانات هناك. التهمة لهذا المواطن أن له علاقة ما بتفجير طائرة فوق لوكربي التي تردد أيضا وكثيرا أن الدولة الليبية طوت صفحتها مع من يهمه الأمر وسوت تعقيداتها وقدمت التعويضات اللازمة.... وزيادة!
وأخبار مثل هذه في الليل تستدعي التوقف والتحليل والأحاديث والإسقاطات والتكهنات مصحوبة بالشتائم وهذا ما نفعله بنجاح منقطع النظير. فعلى مدار الليل الطويل كثر الكلام والفلسفة والحماس عن الموضوع الذي طرأ فجأة رغم مباريات كأس العالم وموسم المطر وإنفلونزا الأطفال ببنغازي.
ارتفعت وتيرة التنظيرات المألوفة في أصل القضية بين الخطف والتسليم: هل ما حدث تلك الليلة هو خطف وسرقة مواطن ليبي من فراشه على مرأى ومسمع المسؤولين وأولي الأمر في ليبيا. أم هو تسليم وقع مثل تسليم أية بضاعة على رصيف الدكان.
وما بين الخطف أو التسليم والكلام المتشنج والمكرر كذلك عن (انتهاك السيادة الليبية) نسي الليبيون أن بوعجيلة يقبع الآن في إحدى الزنزانات الأمريكية على عادة المشبوهين وستجرى محاكمته في كولومبيا ولا يسمع تحليلاتهم أو الدفاع العاطفي عنه من على البعد.
ونسوا أيضا في غمرة العاطفة أن لا سيادة وطنية تذكر على طول البلاد وعرضها، فهي كلها ماتزال تحت الفصل السابع للأمم المتحدة الذي كانت جربته أيضا في السابق اعتبارا من العام 1991 وإلى 2022 وذاقت وحدها الحصار ولعب فوقها كل التافهين والقوادين بمسألة لوكربي وانتهى الأمر الذي أكلته ليبيا (طاجينا) ساخنا بدفع الفلوس من قوتهم ودائما كان الليبيون مضربا للمثل ويدفعون الثمن عن الآخرين لصدق وطنيتهم وتضحياتهم وشعورهم الأبدي بعدالة القضايا التي ينبغي أن يضحوا من أجلها.
لقد تردد – أيضا- في حكايات أيام تلك الليالي أن ليبيا مظلومة وأنها كانت مجرد ديك نبش في القمامة ليناله السكين. كانت كبش فداء للعبة سخيفة أخرى كما أشيع تمت بين إيران وجهة فلسطينية مناضلة. وصل الأمر إلى القول بأن التفجير تم بحرفية مخابراتية عالمية تعجز عنها المخابرات الليبية.
ومع ذلك سلمت ليبيا مواطنيها المتهمين أمام العالم ليحكم على أحدهما ويبرأ الآخر فيما سلمت لاحقا أسلحتها التي وصفت بأنها تحمل دمارا شاملا للبشرية. وفي فترة لاحقة غير ذات صلة بالمسألة خُطف بعضُ مواطنيها من مدنهم ونقلوا إلى أمريكا ولم تجدِ التحاليل شيئا حتى الآن لأن الليبيين نسوا ما حدث كالعادة ثم إن أغلب المحللين الشطار هم في الغالب مثل العطارين القدامى يصفون الأعشاب لعلاج حالتنا. إن الحقيقة القاسية التي تقابلنا إزاء هذه المسائل هي الجواب عن السؤال التقليدي الذي يعرفه أغلبنا: طحت وإلا طيحك الجمل. كان الرد.. وصلت إلى الأرض على كل حال!
والمواطن مسعود وصل إلى الأرض دون حاجة إلى معرفة من أوقعه على الأرض فيما يظل الحديث عن السيادة المزعومة يقودنا إلى الحديث عن الإرادة. والإرادة في الفعل أو الرد مفقودة عندنا. فلقد ضاعت منا الدروب عدة مرات وغدونا نعود على الدوام إلى المربعات الأولى.. إلى الأصفار الكبيرة. فلا إرادة لدينا ولانعرف ما نريد والسيادة في الأساس فرطنا فيها تماما.
فلا سيادة تذكر للوطن حتى تكون هناك سيادة للمواطن الذي تلعب به عديد المؤسسات المتنافرة من فوق والمتآخية من تحت الطاولة وعديد الأشخاص الذين يتبادلون الأدوار أمامه دون أن يهتموا بسيادته وبمستقبله وبمستقبل أطفاله ويتركوه هكذا في الهواء الطلق لا يعرف عنها أيما شيء. السيادة تحتاج إلى إرادة والإرادة تحتاج إلى عزوم وإلى رجال وإلى وطنية وهذا مازلنا نفقده.
فهل هذا الأمر يعد مستغربا؟ أعني لماذا نتعجب مما يقع ومما سيقع. إن الحبل طويل وهو على الجرار كما يقال وسنسدد المزيد من الفواتير المعلقة على مشجبنا المتهالك. سيظهر المزيد من الأثقال والمطالبات مع مرور الأيام قبل أن تنتهي المشكلة الليبية. العالم سيسوي مشاكله ومطالبته معنا قبل أي شيء ثان.
المطلوب أن تبقى ليبيا تحت الفصل السابع أو أي فصل من الفصول فقد تعودت على ذلك وليس ثمة مشكلة. ستبقى هكذا معلقة مثل المرأة التي لاتعرف البقاء في بيتها أو بيت أهلها. ستبقى ونبقى معها إلى أن ينتهي حسم ما ارتكب من حماقات ماضية كنا في الغالب شركاء فيها أو مسؤولين عنها من قريب أو بعيد.
مازال أمامنا: مشاكل تشاد وأوغندا وجنوب السودان والجيش الجمهوري الأيرلندي وتعويض اليهود ونيكارغوا والهنود الحمر واغتيال وموت الكثيرين.. وتمزيق ميثاق الأمم المتحدة في وجه العالم وكل شيء مما ينتظرنا ونتحمل مسؤوليته. ولم ينسه العالم. إنه يملك المعلومات إضافة إلى أنه وجد طريقه سهلا إلى أراشيفنا وأسرارنا وأخذه بالكامل وظل يفحصه ويراجعه ويقلبه دون رقيب. لقد انكشفت عوراتنا أمام هذا العالم.
إن هذا العالم ينظر لليبيا الآن على أنها فريسة سهلة المنال ينبغي أن ينهب قوت أبنائها متذرعا بحجة تلك الأفعال فلا شيء يسقط عنده بالتقادم. كل شيء يتجدد لديه في كل لحظة. العالم ليس مثلنا. إنه يرى ليبيا بأنها موقع وشمس وذهب وإمكانيات وفراغ لابد أن يسد وبترول في البحر وفي أقصى جبل العوينات ومياه ستكفي ليبيا مدة ألف عام ساكنة أسفل الأرض من سرت وحتى أبعد نقطة في الجنوب كما تقول تقارير العالم الإستراتيجية التي يغفلها الليبيون ولايعلمون عنها شيئا.
العالم ينظر لليبيا نظرة تختلف عن نظرة الليبيين إليها الذين يرون فيها مهزوزة الأصل وعديمة القيمة ومعبرا لحضارات مضت وفقيرة التاريخ والهوية والذين لايريدون الوقوف على ما يراد لهم ولليبيا وما يدبر من تقسيم وتفتت وتقطيع يلوح قريبا وإن كان يبدو بعيدا. وإذا كان البعض منا يسخر من التاريخ ولا يشعر بقيمته ويتحسس من الإشارة إليه فإن العالم الذي يلعب بنا لا ينسى التاريخ ولا ينسى الماضي ولا ينسى الأحداث ولا ينسى الأرقام .إنه يخرجها في لحظة واحدة ويطرحها على الطاولة متى شاء.
إن العالم لا يمزح وليتدبر الليبيون فقط في أن تسليم أو خطف المواطن بوعجيلة تم في الحادي والعشرين من نوفمبر الماضي وهو يوم (كان) يعني لليبيين اعتراف العالم وبواسطة الأمم المتحدة باستقلالهم وحريتهم قبل أن يقعوا أسارى الفصل السابع مرتين في هذا العصر المحزن.
وأن الإجراءات أيضا استدعاها شهر ديسمبر الذي كان الليبيون حصلوا فيه على ذلك الاستقلال قبل سبعين عاما وأن من يهمهم الأمر في المسألة يريدون تذكير الليبيين بشيء آخر يتمثل في أن الطائرة انفجرت فوق لوكربي ذات يوم في ديسمبر. إنهم لايهربون من التاريخ ولا يسأمون منه.
والخلاصة أن لا بواكي لليبيين حتى الآن ولا لمآسيهم المتجددة سابقا ولاحقا وماعانوه تحت كل الظروف ومع ذلك يظلون مطالبين بدفع الثمن عدة مرات.. ولا أحد يأبه بهم.
والخلاصة أيضا أننا كلنا وقعنا على الأرض ولايجدي السؤال عن الكيفية أو السبب فنحن نحكي عن السيادة ونفتقدها ونلعن الأمم المتحدة ونحن تحت فصلها السابع الذي يتجدد ويصاحبنا مثل (التبيعة). وأننا نشعر بالحزن ولكن دون بكاء. لم يعد ثمة دموع. وأن الوطن يتداعى أمام الأعين كل لحظة.. كل يوم.. وما لجرح بميت إيلام.. لقد وجد الليبيون مايتسلون به من كلام المحللين ووصفات العطارين بعد كأس العالم!!
تعليقات