Atwasat

جامعاتنا والأمية الأكاديمية

سالم العوكلي الثلاثاء 13 ديسمبر 2022, 01:01 مساء
سالم العوكلي

تأسست أول جامعة في ليبيا في بنغازي تحت مسمى (الجامعة الليبية) العام 1955 بافتتاح كليات للعلوم الإنسانية: كلية الآداب، وكلية التربية، وتبرع الملك السنوسي بقصره (المنار) ليكون مقرا لها، في حين تأسست كلية العلوم بالجامعة الليبية في طرابلس عام 1956، وكلية الاقتصاد في بنغازي العام 1957، وكلية القانون في بنغازي العام 1962، وكلية الزراعة في طرابلس عام 1966.

وتم جلب أسماء مهمة من الجامعات المصرية بعد لقاء وفد حكومي ليبي مع الرئيس جمال عبد الناصر، الذي أعار الجامعة الليبية أساتذة مرموقين لمدة أربع سنوات متعهدا بدفع مرتباتهم، وكانوا: د. طه الحاجري (الأدب العربي)، ود. عبد الهادي شعيرة (التاريخ)، ود.عبد الهادي أبوريدة (الفلسفة)، ود. عبدالعزيز طريح شرف (الجغرافيا).

كما رشحت الحكومة الأمريكية الدكتور مجيد خدوري رئيس مركز دراسات الشرق الأوسط ليكون عميداً لكلية الآداب والتربية على نفقة الحكومة الأمريكية. ومن الواضح أن التوجه لإرساء فضاء أكاديمي ثري ومتنوع كان ضمن التخطيط الوطني، وكان تنوع التيارات الفكرية والفلسفية إثراء للجدل الأكاديمي في ذلك الوقت.

واستطاعت الجامعة الليبية أن تربط بينها وبين المجتمع، حيث كان الكثير من المواطنين يحرصون على حضور دروسها، وخصوصا محاضرات أستاذ الفلسفة د. عبدالرحمن بدوي، كما أن بعض أساتذة الجامعة اُستعين بهم في لجان تتعلق بالتخطيط العلمي والتربوي والاجتماعي من قبل مؤسسات الدولة.

بينما احتوت الجامعة على نخبة من الطلاب المميزين الذين أصبحوا في ما بعد خميرة النشاط العلمي والثقافي والفكري في ليبيا، فضلا عما كانت تقوم به من أنشطة فكرية وإصدار دوريات مهمة. وكان قسم الفلسفة من أكثر الأقسام زخما ونشاطا.
يذكر أ.د. نجيب الحصادي في كتاب سيرته (تحت الإنجاز)، أنه: «بصرف النظر عن بواعث نشأة قسم للفلسفة.

لا شكّ في أن تجربة تدريسها كانت في عقديها الأوّلين ناجحة نسبيا بسبب نخبة عربية من الأساتذة الذين وفدوا عليه من مختلف الأقطار وكان لهم أنصبة متفاوتة في تشكيل المشهد الفلسفي العربي، أذكر منهم ألبير نصري، وأحمد صبحي، وأحمد الأهواني، وتوفيق رشدي، وتوفيق الطويل، وحسام الدّين الألوسي، وعادل فاخوري، وعبد الرحمن بدوي، وعثمان أمين، وعزمي إسلام، ومحمد أبوريان، ونوري جعفر، ومحمد أبوريدة، ومحمد قاسم، وكريم متى، وياسين خليل. ولعلّهم أسهموا في حظوة الجامعة بصيت إقليمي شجّع شخصيات بارزة أخرى، خصوصا في علوم القانون والاقتصاد، على التدريس فيها، ما جعل طه حسين، فيما يُروى، يعتبر الجامعة الليبية أفضل الجامعات العربية في عقد الستينيات».

ما حصل بعد انقلاب 1969 وفي الجامعات الليبية خصوصا، كان عملا مدبرا لضرب هذا المنجز، خصوصا بعد الصدامات التي حصلت، منتصف السبعينيات، بين طلاب الكليات المختلفة في بنغازي وطرابلس وبين النظام، وأحداث السابع من أبريل الشهيرة، وشنق بعض الطلاب والناشطين والمثقفين في الميادين العامة وساحات الجامعات، وسجن البعض الآخر من الطلاب والأساتذة، إضافة إلى ما تبع ذلك من تصفية أي تميز في الجامعات ومن ثم عسكرتها، وأصبح السابع من أبريل يوما سنويا لتصفية أي تميز أو نبوغ أو رأي مخالف.

بينما ارتبطت بعثات الدراسات العليا بالولاء الثوري، وليس بمعايير أكاديمية، ومُنع الطلاب المتفوقون من إكمال دراستهم، ما جعل المدرجات الجامعية ومكاتب هيئات التدريس تكتظ بمحاضرين (شبه أميين) بالمفهوم الأكاديمي، إلا القلة التي درست على حسابها أو اشتغلت على نفسها بعصامية. وينطبق ما سبق ذكره على أغلب الجامعات العربية خصوصا في الدول التي حكمتها نظم شمولية.

ويحيلني كل هذا إلى كتاب مهم: «الأميَّة الأكاديميَّة في الفضاء الجامعي العربي: مكاشفات نقديَّة في الجوانب الخفيَّة للحياة الجامعيَّة» للدكتور:علي أسعد وطفة، الأستاذ بكلية التربية بجامعة الكويت، وحسب ما يرد في ملخصه، يطرح الكتاب ظاهرة الأمية الأكاديمية في الجامعات العربية.

حيث ركز فصله الأول على البحث في مفهوم المثقف الأكاديمي، والثاني على البحث في مفهوم الأمية الأكاديمية وتقديم تعريف علمي لها «ضمن حدود الإمبيريقة الإجرائية»، وعولجت في الثالث ظاهرة التلقين «بوصفها أيديولوجيا مدمرة وقوة تجهيل تمارس ضد الطالب والأساتذة على حد سواء»، وفي الفصل الرابع كان التركيز على مسألة التسييس الأكاديمي ومساراته التدميرية للوعي الأكاديمي، بينما تطرّق الفصل الخامس إلى دور الاستبداد الأكاديمي في تكريس ظاهرة الأمية الأكاديمية.

وبحث الفصل السادس في مظاهر الفساد والإفساد الأكاديمي في صفوف الأكاديميين، وعالج الفصل السابع مظاهر الجهالة والتجهيل التي تستبيح الفضاءات الجامعية العربية. وأخيراً تناول الفصل الثامن الملامح المنهجية للجانب الميداني وتم فيه تحديد الخطوات المعتمدة منهجيا في تناول هذه الظاهرة ميدانيا.

وباشر الفصل التاسع عرضا وتحليلاً لمختلف الشهادات الميدانية لعينة من الأساتذة الجامعيين في العالم العربي حول الأمية الأكاديمية ومدى انتشارها في الجامعات العربية. وجاءت خاتمة الكتاب لتقدم صورة بانورامية لواقع الجامعات العربية يعضدها تصور استراتيجي أوّليّ عن إمكانية إصلاح هذه الجامعات، وتحريرها من عطالتها الفكرية والثقافية لتكون قادرة على أداء دورها التنويري المنوط بها.

يقول المؤلف في مقدمة الكتاب «إنَّ الجامعات لا تبلغ مجدها وقوتها إلا بعلمائها وأساتذتها والمبدعين فيها من طلبتها وباحثيها، فالأستاذ الجامعي المبدع يشكل مصدر إبداع هذه الجامعات، ومعني قدرتها على البقاء والحضور في عالم الابتكار. فالمباني والهياكل الإدارية وعدد الطلبة والأموال المرصودة والمناهج جميعها لا تنفع في غياب الأستاذ الجامعي العالم المبدع الخلاق الذي يحتلّ موقع الروح في جسد هذه المؤسسات الجامعية.

فأكاديمية أفلاطون لم تكن أكثر من أفلاطون وتعاليمه وإبداعاته الفلسفية، ومدرسة أرسطو العظيمة في التاريخ لم تكن إلا أرسطو الذي يمشي على قدميه يتبعه طلبته ومريدوه، لم يكن لمدرسته هذه أبنية وأطناب وحجرات وقاعات بل تقاليد المشي وراء أستاذ عظيم هو أرسطوطاليس عينه، حتى إنَّ المؤرخين أطلقوا على أكاديميته «مدرسة المشائين».

«عمل أهل الاستبداد السياسي على تحويل الجامعات إلى مداجن للترويض السياسي، وعملوا وفقا لذلك على تفريغ الجامعة من كل ما يلمع فيها ويضيء، فأطفأوا شمعتها المنيرة واستلبوا قدرتها على التنوير، وأفلتوا عليها كل وحوش الاستبداد والفساد لتدميرها وتدمير بلدانهم في آن واحد.. وضمن هذه الدورة التدميرية فقدت الجامعة كلّ معانيها ودلالاتها، بوصفها مؤسسة علمية أخلاقية إنسانية، أي: مؤسّسة للحضارة والتقدم. وضمن هذا الصورة القاتمة أصبحت الجامعة منتجة للجهل، ومعنية بإنتاج الجهالة. وهي الوظيفة الأساسية التي يمكن أنَّ تقوم بها في ظل الاستبداد خدمة لأغراضه وتوجهاته».

ويشير المؤلف إلى أن الأزمة عالمية وإن كانت المعطيات والأسباب والنتائج مختلفة، حيث لا يمكن فهم الوضعية التي أدّت إلى تدهور أوضاع الجامعات العربية دون النظر في المشهد العالمي لتدهور أنظمة التعليم العالي في مختلف أنحاء العالم بتأثير أيديولوجيا الاستهلاك المهيمنة: «تحت تأثير ما يسمّى بالليبرالية الجديدة، التي أقدمت على تحويل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي إلى مجرد مراكز رأسمالية لإنتاج الخبراء والمتخصصين، والقضاء على الجوانب الثقافية والفكرية في هذه الجامعات.

فأزمة الجامعات العربية يجب أنَّ تؤخذ ضمن سياق الأزمة العالمية للتعليم العالي في العالم، فالجامعات العالمية تعاني من أزمة كبيرة في ظل التحولات الرأسمالية والليبرالية الجديدة، ويجري الحديث اليوم عن أنَّ الجامعات في العالم المتقدم تتحول تدريجيّا إلى جامعات تقنية فنية تكنولوجية منتجة للخبراء والخبرة العلمية وكل ما من شأنه أن يدفع هذه الجامعات للمساهمة في الإنتاج الرأسمالي بصيغته الجديدة..

وذلك إلى الدرجة التي تتحوّل فيها الجامعات ومؤسسات التعليم العالي والتعليم العام إلى منصات إنتاجية أيديولوجية تقوم بمواكبة الرأسمالية الجديدة في مختلف توجهاتها وتعيناتها وتطوراتها».

ويصل الكتاب في خاتمته إلى طرح السؤال المعقد عن كيفية الخروج من هذه الأزمة، أو كيفية الارتقاء بالأستاذ الجامعي إلى دوره التنويري في المجتمع. ويقترح مبدئياً حلولا إجرائية عبر عملية مركبة من الإصلاحات داخل الفضاء التربوي والأكاديمي والسياسي والثقافي للتخفيف من حدة ما سماه «الجهالة الأكاديمية»، ويحددها في إطلاق الحريات الأكاديمية، وتشديد معايير التقييم والجودة، وتحفيز الإنتاج العلمي، مشيرا إلى أنه لا يمكن إصلاح الجامعات فعليا دون إصلاح النظام التربوي برمته «إذ كيف نتحدث عن دور ثقافي للجامعة بمدخلات طلابية ضعيفة؟».

كما لا يمكن الحديث عن إصلاح أكاديمي دون إصلاح سياسي «تحرير الجامعة من الهيمنة السياسية ومنحها الحريات الأكاديمية المستلبة».

كما لا يمكن إصلاح الجامعة دون إصلاح ثقافي في المجتمع «فهناك عدد كبير من المؤسسات الثقافية التي تنشر الجهل في المجتمع مثل المؤسسات الإعلامية، وبعض المؤسسات الدينية الإعلامية التي تنشر ضروبا من التعصب الديني والطائفي، وهناك مؤسسة القبيلة والأسرة التي تنشر الخرافات والأوهام في عقول الأطفال».

وهذه المعادلات المركبة والمعقدة تحتاج من أجل تحريكها في نسق متناغم إلى رسم خارطة شاملة تحدد الأولويات من أجل تثوير العقل الجامعي وإعادة بناء الأكاديمي (المثقف)، ولايمكن أن يجري هذا التثوير داخل أسوار الجامعات لارتباطها بالفضاء السياسي والثقافي المهيمن، باعتبار أن هذا «المخطط لا يمكن أن يكون خارج نطاق مشروع سياسي إصلاحي جادّ وفاعل، وهنا تكمن أكبر مشكلاتنا على الإطلاق؛ لأنّ أي محاولة إصلاحيّة لن يكون لها أيّ أثر في ظلّ أنظمة شمولية تريد أنَّ تُبقي على وضع الجامعات بوصفها مؤسّسات أيديولوجية للأنظمة السياسية القائمة». وليبيا نموذج ساطع لهذه النتيجة.