Atwasat

الهروب إلى التاريخ

صالح الحاراتي الخميس 08 ديسمبر 2022, 04:33 مساء
صالح الحاراتي

في كثير من الأحيان تبتعد كتاباتنا بمختلف أنماطها عن الواقع بشكل لافت، وتلجأ إلى التاريخ تجتره كما هو دونما تمحيص ولا تدبر، والمبرر الجاهز دوما هو أن التاريخ فيه الحِكم والعبر، وفيه التجارب والسير، ويفترض أن نعرف منه الصواب فنتبناه، ونعرف الخطأ فنتفاداه.. هذا هدف نبيل ولكنه، في تقديري غير متحقق واقعا، بل يبدو لي أن ذلك هو جزء من مصفوفة التبرير التي يتبناها البعض ليظهروا أهمية اجترار التاريخ.. حتى تبدو تلك الأهمية المزعومة وكأنها ضرورة، والحقيقة أنها وهمية، فالأهمية لا تتحقق بحفظ قائمة الأحداث أو التواريخ، وإنما الأهمية تتطلب قراءة ناقدة وتفسيرا وتحليلا للمعلومات حول أحداث وموضوعات تاريخنا التي قد تحتوي في الغالب على وقائع ومعلومات غير صحيحة.

هل حاضرنا وواقعنا جيد وجميل ولا يستدعي منا نقد ما سلف من تجربتنا الإنسانية واقتصار الحديث عن الفخر بالبطولات وتغريد الكناري وهديل الحمام؛ أم أنه في منتهى السوء ويستحق تناول ما به من مشاكل وأزمات، والبحث الدؤوب عن حلول لتلك المشاكل ومحاولة خلق رؤية مستقبلية تفتح لنا أبواب الأمل.
هل اهتمامنا بالمستقبل يستدعي منا الانغماس في التاريخ، أم أن ذلك يجسد حقيقة هروبنا العاجز عن مواجهة واقعه، ويعبر عن حالة العجز والـ«نوستالجيا» والحنين إلى الماضي اعتقادا أنه ماضٍ جميل وهو ليس كذلك.

الماضي الذي نهرب إليه يؤكد لنا أن حالنا لم تتغير قضاياه وأزماته منذ قرون وما زلنا نكرر الأخطاء نفسها، ونسير في الطريق نفسه الذي سلكه الأولون، وثبت فشله وعدم جدواه.

نعم يفترض أن التاريخ قد يمنحنا الفرصة للتعلم من أخطاء الماضي، ويساعدنا على فهم «الأسباب» العديدة التي تجعل الناس يتصرفون بالطريقة التي تصرفوا بها. ونتيجة لذلك، يساعدنا على أن نصبح أكثر إيجابية وفاعلية في حياتنا، ولكن من المهم للغاية أن نتعلم التشكيك في جودة وصدقية المعلومات لذلك «التاريخ» الذي نقرأه، وهل ما نقرأه حقائق ومعلومات دقيقة؟.. أم أنه تأثر بالمحتوى السائد في منظومتنا الثقافية التي تشير بقوة إلى الفخر ببعض البطولات وتضخيمها لنصل إلى أننا خير أمة، وأفضل جنس ولغة، نظرة عابرة إلى الشعر الجاهلي وما تلاه، سنجده يعج بالبطولات الشخصية والعامة ومكتظا بالتغني بالبطولة وكثرة الغنائم، والأسرى والسبايا، كما التباهي بالقبيلة وبالأصل والنسب والحسب والآباء والأجداد.. إلخ.

صحيح أنه ليس بإمكان الإنسان العيش إلا داخل نظام أفكار تُصلِح حياته، لكن عندما تتغول وتطغى تلك النزعة، فإنها تحجب عنا الواقع، لأنها تقدم نفسها على أنها وصلت للحقيقة الكاملة.. وعندها يفقد التاريخ موضوعيته وتجرده.

حتى وإن حاول البعض النبش في التاريخ ونقد أحداثه، فإن تلك المحاولة لا تأخذ معنى الشمولية والموضوعية، إنما تحوي بعضا من الواقع الذي أمكنه الإفصاح عنه، والكشف عن مثالبه، وسيجد صعوبة بالغة في نقده، بسبب منظومته الثقافية، التي هي مزيج من القيم والعادات والتقاليد والأعراف التي ترسخت في العقول منذ النشأة ودرج عليها المجتمع، وأصبحت جزءا من مكوناته الشخصية، ولا يستطيع الكاتب نفسه الانسلاخ عنها، أو قطيعتها عند الكتابة، أو حتى الالتفاف عليها.

وأخيرا، لا شك لديّ أنه لن يجدي هروبنا إلى التاريخ من أجل إراحة الضمائر والهروب من مسؤولية الحاضر، فذلك التوجه إلى التاريخ دون نقد وتمحيص هو تزييف للوعي الجمعي من خلال تضخيم وتهويل أحداث التاريخ، وتقديمها ناصعة ناجعة، وهي ليست كذلك.. فالكثير من أوراق التاريخ تبنى على (الأوهام والزيف)، وتتحول مع الزمن إلى عامل تخدير خطير يقتل أي حاضر أو مستقبل.

والشعوب التي لا تناقش (ماضيها) بالمكاشفة والشفافية ستظل على هامش مسيرة البشرية.