Atwasat

فيكتوريا

جمعة بوكليب الأربعاء 07 ديسمبر 2022, 12:36 مساء
جمعة بوكليب

تقول المصادر التاريخية المهتمة، على اختلافها، أن محطة لندن- فيكتوريا كانت من أولى المحطات القطارية في لندن، وأنها بدأت خدماتها في أول أكتوبر 1860، المحطة تربط لندن بالجنوب الشرقي لإنجلترا، وبها محطة قطارات أنفاق بعدة خطوط، تصل مناطق عديدة في العاصمة ببعضها، وهي تتبع إداريًا المجلس البلدي لمنطقة ويستمنستر.

التسمية (فيكتوريا) لا علاقة لها بالملكة فيكتوريا، كما قد يبدو لمن لا يعرف، بل بالشارع القريب منها، والمسمى «فيكتوريا روود»، وهو شارع طويل وجميل ومزدحم بحركة المرور، يبدأ من قرب المحطة وينتهي في قرية ويستمنستر، حيث مبنى البرلمان، وإضافة اسم لندن إليها، تمييزًا لها عن غيرها من محطات قطارات تحمل نفس الاسم، تقع في مدن أخرى.

ولسبب ما، أو لأسباب غير معروفة لي، فإن نفس المصادر التاريخية تلك لا تذكر مطلقًا في سجلاتها أن مهاجرًا، من بلد صغير يتموضع بين بحر وصحراء، يقع على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، افتتن بالمحطة، وهو أمر غريب إن لم يكن مريبًا.

وكتب عنها بلغته الأم، عديدًا من القصائد، وجعلها مسرحًا للعديد من قصصه وحكاياته، ونشرها في كتاب، لم يترجم بعد إلى اللغة الإنجليزية، أو إلى أية لغة أخرى، لأسباب تظل غير معروفة لي أيضًا، وربما تكون معلومة لغيري، ومن الأفضل تجنب أمر الخوض في الموضوع، لشدة تعقد خيوطه، وعتم دهاليزه، وتعدد أطرافه.

وهو، حقيقة، أمر غير مهم، ولا يستحق إضاعة وقت، لكن المهم، الذي وثقته (أنا شخصيًا) في أرشيف ذاكرتي، هو أنني، رغم شدة حرصي على التوثيق، لا أتذكر، على وجه الدقة والتحديد، تاريخ أول لقاء بيننا (فيكتوريا وأنا) لكنه، بالتأكيد، وهذا ما أتذكره ووثقته في كتاباتي، كان حبًا من أول نظرة، في أول لقاء.

هذا النوع السريع والخاطف من الحب، بين كائن بشري مغترب ومجهول، ومحطة قطارات لندنية مشهورة عالميًا، قليل، إن لم يكن نادرًا، ولا سبب عقلانيا يفسّره، ويضعه، على الأقل، في سياقه المقبول مما يحدث من أمور في الحياة الاعتيادية اليومية، ليكتسب مصداقية لدى المؤرخين والناس.

وربما لهذا السبب، تحديدًا، اعتبره مؤرخو محطات القطارات في لندن استثنائيًا، وتجاهلوه، كونه يمثل علاقة حب شخصية جدًا، مزعومة، وأحادية الجانب، ولا أحد يلومهم على ذلك، أو يعتب عليهم، وفي ذات الوقت، ليس الأمر مدعاة للشعور بالحزن أو بالإحباط الشخصي.

طيلة سنوات عديدة كنت أجيئها صباحًا، كل يوم، على متن قطار مزدحم قادم من مدينة برايتون، على الساحل الجنوبي الشرقي، في رحلة تستغرق ساعة أو يزيد من الوقت، وحين انتقلت للسُكنى في لندن، ظلت، لحسن الحظ، تلك العلاقة اليومية قائمة ومتواصلة، وازداد الحب من جانبي توطدًا، وبين جدرانها وأعمدتها العالية، انتبهتُ لأول مرة لمعزوفة إيقاع أقدام المسافرين السريع على الأرضية الرخامية لدى مغادرتهم القطارات الواصلة إليها من مختلف المناطق، في طريقهم إلى أعمالهم، إيقاع توقعه آلاف الأقدام وهي تدق بكعوب الأحذية، في وقت واحد، وبخطوات مسرعة، على لمعان رخام أبيض لماع، عاكس للأضواء، ذلك الإيقاع كان مبعث بهجة خفية لي، وأدمنته.

ولا أدري إن استأثر باهتمام غيري.. وعلى حد علمي، لم يوثقه مؤرخو المحطات، على اختلافهم، في كل ما نشروا من كتب ووثائق، وأتيحت لي فرصة الاطلاع عليه، ولم أسمعه يتردد في أي محطة قطارات أخرى.

في مثل هذا الوقت من العام، شهر ديسمبر، ومدينة لندن تستعد مبتهجة للاحتفال بعيد ميلاد المسيح عليه السلام، تتحلى فيكتوريا بكامل زينتها، وتبدو أجمل من كل ما صمم مهندسو العالم من محطات قطارية، ومن وسط الزحام، وتوقيع الأقدام على رخام الأرضية، تعلو، دافئة ونقية وآسره، أصوات فرق الكورال، فريق في كل يوم، أطفال ونساء ورجال، تراهم يصطفون في جانب من المحطة، على مسافة قريبة من الأبواب، ويشدون بأصوات جميلة.

تتسرب إلى قلوب الواصلين من كل المناطق أو المغادرين، فيسارعون إلى البحث في جيوبهم عن قروش قليلة يتبرعون بها.

أصوات كأنها قادمة من عوالم بعيدة جدًا ومنسية، تحلق مرفرفة في أجواء المحطة، فأحس وكأنني نقلت فجأة من عالم الواقع المعاش إلى عالم مفارق، لكن بمجرد أن أغادر بوابة المحطة، ينقشع الوهم عن العينين، ويفيق القلب من غيبوبته المؤقتة، خارج المحطة، أشعل سيجارة بمضض، وأنفثها بمضض في وجه نهار آخر، رمادي وبارد، وأبدأ، منذ تلك اللحظة، بمضض رحلة يوم جديد، لا أعرف أين، ومتى ينتهي؟! في مسارب عالم واقعي جدًا، أخوضه مع الخائضين في مساربه، ولا يمكنني، مهما حاولت، تجنب أوحاله.