Atwasat

العالم.. والكأس

سالم الكبتي الأربعاء 07 ديسمبر 2022, 12:31 مساء
سالم الكبتي

.. والعالم يحبس أنفاسه ناظرا بعينين حادتين باتجاه ضفة مقابلة، وينشغل بحربها المشتعلة فوق المدرجات والملاعب الخضراء، يترقب نتائجها التي ستسفر عنها، والعالم مأخوذ هناك إلى ماوراء التلال بالجملة والمفرق.. ببطولة كأسه.. الجموع تحتشد وتتراص وتهتف وترقص وتغني وتشجع وتصاب بالجنون. إنها حرب حقيقية، لكنها من نوع أخر. صواريخ الكرة.

والكأس الذي يدوخ العالم أحيانا غير عادي. يظل على الدوام، في الأعوام الأخيرة بخاصة، ليس عاديا أو رياضيا محضا. إنه يختلف مثلا عن أعوام 1960و1964و1968.. إلخ عن أيام بيليه وبوشكاش وستانلي ماتيوز وجارنيشيا. إنه شيء آخر. لم يعد رياضة. لم يعد كأسا فقط.

لقد دخلت السياسة بكل أنواعها على الأهداف وعلى خطوط المواجهة الكروية فوق الملاعب والمدرجات. ليس هناك من يعزل الكرة عن السياسة. من يبعد الرياضة إجمالا عن صراعات العالم. ربما تدخلت السياسة سابقا ولم تستمر. أو ربما كانت تتدخل ثم تغيب بسرعة، غير أن تداعياتها تظل باقية مثل تداعيات أي زلزال. حدث ذلك عقب هزيمة في إحدى البطولات في أمريكا اللاتينية عام 1969.

تسببت الهزيمة في حرب بين دولتين متجاورتين هما السلفادور وهندوراس.. وضحك العالم يومئذ كثيرا من هذا الذي جرى . وفي عام 1972 في دورة ميونخ منظمة أيلول الأسود تتعقب الفريق الأسرائيلي وتقتله. ثم تتعقب إسرائيل الفعله وتنتقم منهم. كل ذلك أسبابه الرياضة والألعاب الألومبية في الأساس.

وقديما اهتمت الفاشية في إيطاليا والنازية في المانيا بالرياضة وأقحمتها من بعد في السياسة ومباديء الحزب وبناء الشبيبة بأوامر المعلمين موسوليني وهتلر. وبالمثل فرنسا التي مازالت تلعب بواسطة أفراد أصولهم جذورها غير فرنسية.. استغلت مواطني مستعمراتها وأدمجتهم في اللعب بفرقها على الدوام، والأمثلة كثيرة في هذا السياق.

ومادامت القصة كذلك فإن العالم في بطولات كأس العالم هو في صراع كروي أيضا لأن الكرة أضحت بهذا الشكل سياسة أيضا.. لكنها بالأقدام. إنها صراع في الكواليس وأمام الأعين بين الدول وبين المصالح وبين الضمائر. والذمم والرشاوى والأكاذيب وشراء اللاعبين مثل الرقيق.

قد تغري المظاهرالأبصار بعض الوقت، لكن الحقيقة المخجلة تلوح بلا توقف. العالم في بطولاته الرياضية يمارس النفاق وسوء الأخلاق أيضا. فليس هناك رياضة بالمعنى الصحيح. إنها سياسة لاغير.

كان فرانز فانون ينظر للأمور بطريقة أخرى وقد عرف أن الرياضة بشكلها الذي تجري فيه ينبغي أن لا تستحق اهتماما كبيرا من الدول. ولذلك أشار في كتابه معذبو الأرض إلى أنه: (يجب أن توجه الشبيبة إلى الحقول.. إلى المدارس والجامعات وليس إلى الملاعب).

لعل رأيه هذا يخالفه فيه الكثيرون، ولكنه أراد أن يحقق كسبا لرياضة العقول والأفكار قبل الرياضة أو أي نشاط بدني. كان ذلك في أواخر الخمسينيات وقبل أن يغادر الدنيا في مثل هذه الأيام من عام 1961. كان العالم كله مفتوحا على الصراعات والأحقاد والظلم وثورات الفقراء الذين لاتهمهم الرياضة بقدر ماتهمهم الحرية والاستقلال.. ثم بعد ذلك لكل حادث حديث.

والآن.. ما الذي يجري بوضوح أمامنا؟ إن الواضح أن السياسة لاتطفو فقط على سطح الرياضة أو كأس العالم. أن هذا الكأس يغرق رغم لمعان الذهب في السياسة. لا تفارقه ولا يفارقها، رغم الهتافات والرقص والشعارات والغناء. السياسة تلوح واضحة.. فلسطين بعلمها وتنظيماتها فوق المدرجات رغم عدم مشاركتها من قريب أو بعيد في البطولة. إحساس ينتابك بأن الموضوع حشر حشرا فقط. ليس عن إيمان عميق بالقضية. وإسرائيل ترسل مراسليها لحوارات مع الحاضرين والمتفرجين..

أغلبهم يفر من المقابلة وكأن الموضوع حشر حشرا أيضا في هذا الحشد الذي ينتظم العالم فيه عبر بقعة صغيرة من الأرض. مباراة أمريكا وإيران دخلتها السياسة ولم تفارقها. فرنسا وبريطانيا صراع قديم على الكرة يجعل الإنجليز يستبقون الحدث ويكفون عن تناول الأطعمة الفرنسية. كل شيء بمقابل.

كل صراع له ثمنه والساحة هي ملاعب الكرة تبرز فيها تناقضات العالم ونفاقه وأراجيفه بالرغم من المواهب والمهارات.

وخلف الأسوار، مع انقطاع العالم للتفرج والمشاهدة في المقاهي والبيوت والأندية والأسواق والساحات، تبدو صور حقيقية أخرى لبطولات أخرى تسود أماكن في العالم من الحروب والدمار والجوع.

الذين يتفرجون مصابون بالتخمة والشبع ويجدون وقتا للتسلية وإنفاق الوقت على متابعة كأس العالم. والذين يكتوون بنار الحروب لا يجدون أي فرصة لذلك. إنهم في حروب أشد فتكا ومضاء فيها ركلات الجزاء والأهداف من نوع آخر. صواريخ حقيقية ترتفع خلالها صفارات الإنذار وتظل أعلى من صفارات الحكام والبطاقات الحمراء.

هذا العالم لا يظهر وسط هذه المهرجانات والأضواء الفاقعة والتوقعات والدعايات الضخمة. إنه يعيش مبارياته الكئيبة بكل حزن وموت.

العالم الآن يعيش في عالمين.. عالم الرياضة والتجارة والبزنس والمصالح والصفقات والأكاذيب.. وعالم آخر يحترق بنار تغطي سماءه طوال اليوم ويكاد يقترب من الهاوية.. من الدك بالصواريخ النووية التي تنتظر أمرا مجنونا من لاعب مجنون في مكان ما يقبع فيه لتبدأ منه مباراة النهاية. بضربة جزاء حرة نووية. العالم الآن رغم بطولة كأس العالم يعيش كذبا ونفاقا لا حد له وتلك طبيعة الحياة البشرية.. الحزن والفرح. اللعب والجد..الأمل والهزيمة. الترقب والخوف.

إن بطولة كأس العالم تقسم العالم إلى نصفين، إن لم يكن أكثر.. قسمين لايلتقيان. فرق بين اللعب بالكرة وبين اللعب بالصواريخ والنيران ورؤوس الضحايا.

فمن سيفوز بالكأس الحقيقي وراء جدران الرماد؟!
من يشرب منه حتى يدوخ.