Atwasat

زرار محمد عطية الروائية!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 06 ديسمبر 2022, 01:21 مساء
أحمد الفيتوري

قبل أن أشير إلى أن أي نص روائي، لا يمنح نفسه من القراءة الأولى، خاصة رواية محمد محمود طه "ملكة الأزرار"، لا بحجمها، ولكن بالتيمة السردية التي تنقسم إلى عالمين وشخصيات متعددة، وبالحشد والاسترسال. فهذه الرواية تمثل حفريات في التاريخ في مقابل اللحظة الآنية، ساعة الكتابة، وفي تدفق يجعل القاريء يلهث وراء جمل متدفقة، وشخصيات متعددة لكنها متشابهة. ومن ذلك فلابد للقارئ من التأني والصبر، فالنص يعج بمقاربات ومداخلات مزدحمة.

وبعد البنية الروائية يتأسس على مستويات سردية متعددة، منها المسكوت عنه، رواية محمد محمود عطية "ملكة الأزرار"، تستدعي مستوى مبنيا على الافتراض، ما يلزم كل قراءة نقدية، باعتبار أن الرواية حمالة أوجه، وهذا الافتراض، أن الرواية التي طالعت في طبعتها الأولى الصادرة عن دار الثقافة الجديدة 2022م، ناتج اختزال واختصار لنص أركيولوجي أساس، يتسم بالسعة السردية المبنية على حفريات تراكمية.

كما يقول النص: "أخطو نفس الدرب، في العشرية الثالثة من القرن الذي لم يعد بجديد، 2021 لا تختلف كثيرا عن 1955، القباب والمساجد والتكايا والأسبلة، المسنون على المقاهى، الباعة في حوانيتهم، العاملون في المتاجر ومحال ابتياع العطارة والأنسجة، لم يتغير شيء ولو جئت بعد ألف عام". وقد انبثق ذاك الافتراض من خلال النص، المحتشد بالأحداث والشخصيات والتفاصيل، المتراكمة طبقات على طبقات، والمرصوصة بصور ومعلومات، في أسلوب لغوي يحتفي بالتشبيهات والترادفات، المبنية على التداعي والاسترسال.

وبالإضافة لذلك فإن "ملكة الأزرار" رواية تضم روايتين،رواية مبتدأ تجري أحداثها في نهاية القرن الثامن عشر 1797م، وترويها شخصيات تربط بينها وشائج سردية واضحة وجلية، باعتبارها ابنة عصرها، عصر حملة نابليون بونابرت، فيما الرواية الثانية تحدث الآن وهنا، أي عند كتابة الرواية في العقد الثاني من القرن الأول في الألفية الثالثة.

والسارد شخصيات تسرد سيرتها الذاتية، ما يبين التقاطع بينها، في كشف وتكثيف لملامح شخصيات معطوبة وعلاقات مرتبكة. وبهذا الكاتب يثقل النص فينسج سرده بتفاصيل التفاصيل، والحدث يتوالد في جمل تتناسل من جمل، قد تنزاح عن سياقها بمعلومات يستجلبها، تداعي اللغة حينا والمعلومات في حين آخر، وأما التداعي ففي الغالب، يتخلق بين أصابع الشخصيات المعاصرة، التي تبدو نتاج زر، فـ "لم يكن الزر بالكاذب أو المتخرص"، ما هو أيقونة نص ملكة الأزرار: "من أين أبدأ؟ أقلب الزر على هضاب باطن كفي اليمنى، على نتوءات عقل إصبعها، بين انتفاخي الإبهام والسبابة، يصعب الأمر، يلتحص الحال.

يتأزم الشأن، يتعقد الوضع، يتصلب الموقف، تستحكم الشدة، يستشري الضيق، يستغلق الفهم يستفحل الكمد، تتراكم رواسب الخيبة، تستصعب المعضلة، إخفاق ثم إخفاق ثم إخفاق، ثم انفجار طاقة نور، يرسل من يرسل علامات ومشاهد، تزيل أتربة وأتربة عما أريد إخفاؤه، يتكشف السر والنجوة، كأن الزر يدغدغ أوصالي، يعبث بكهرباء سلسبيلية مستطابة، إلي نخاعي الشوكي والمادة السنجابية، ماذا أراني الزر الدوار كالبدر؟ لم يفعل سوى أن أشرق فوق الطرقات، وأشعل المصابيح المطفأة في حلكة الليل، هذا ما أراني إياه...".

أعتقد أن هذا المقطع الطويل ملخص شديد، للبنية السردية في النص، المتسمة بالحشد والتداعي وما لزوم له، من حيث السياق والنسق السردي والبناء اللغوي والسيميائي، وما يمكن أن يجعله سندا موثقا للتأويل، حيث يجترح به المأول النص باعتباره الزر أي المفتاح. ومن جانب آخر تستند كثير من بورتريهات النص، على نصوص غنائية من أغنيات معروفة كمبتدأ أو كتعقيب، ما تجيء باللهجة المصرية.

فتكون خلفية كاشفة للشخصية ولمسرودها. كذلك عزف مفرد لأجواء صوفية، متكئة على جمل مقتطعة لصوفي وآخر، وهذا ما يسند اللغة في النص بظلال تراثية، بخاصة عند شخصيات الرواية التي تعيش في القرن الثامن عشر!. لعل هذا وذاك وراء تدفق الكتابة، المترعة بالجمل والتراكيب التي يعج بها النص، الجميلة ولكن الكثيرة جدا، ما يشتت السياق السردي ويربك القراءة.

ومن هذا سيلاحظ القاريء أن النص حامل لنص آخر، لأن "ملكة الأزرار" تجربة إبداعية مميزة، لكنها كالمقطوعة الموسيقية التي تحتاج لموزع، فالنص يريد قول كل شيء، وفي نفس واحد، وبتنويعات متتالية، مسبوكة على درجة قصيدة البيت الواحد، الذي بين بنيته الناقد خليفة التليسي. بمعني آخر أننا أمام روايتين الرابط بينهما غائب أو افتراضي، فالشخصيات التي من زمن حملة نابليون تسرد سيرها، كما شخصيات القرن الأول من الألفية الثالثة، لكن الزمانين يسيران في الرواية على خطين متوازيين لا يلتقيان، بحيث يوكل الأمر للتأويل، لمعرفة العلائق بين الروايتين وشخصياتهما.

لكن ذلك لم يخلخل السياق السردي، ما يتدفق في نسق محكم، النسق السردي الذي يحيك الرواية في إطار بورتريهات، لشخصيات تسرد سيرتها الذاتية، ما يذكر بالرواية ذات النسق القصصي القصير، فشخصيات ملكة الأزرار، تنسج في قماشة بورتريه، مرسوم في إطار خاص، لكن لا يمكن استقطاعه من معرض البورتريهات/ الرواية.

والتصنيف الذي يكون في بال القاريء أنه يقرأ رواية، ومن هذا ما الذي تضيفه في هذا الإطار وما تستبعده؟. وليس ثمة تصنيف آخر يستدعيه النص السردي الروائي، مثل المذهب أي ما يشبه عقيدة النص، أنه واقعي أو واقعي سحري، فإني أعتقد أنها اصطلاحات نقدية من لزوم ما لا يلزم.

قد تكون عند إنتاجها لازمة نقدية، يخترعها الناقد، مثلما يفعل العالم لتوصيف أو تسمية مكتشف جديد، ثم تغدو موضة/ تقليعة، فستان الموسم ما هو مقياس الجمال لحظتها، وهكذا الرواية لا تتغيا تصنيفا مذهبيا ما لا يسمن ولا يغني من جوع. لكن تقسيم "ملكة الأزرار"، من صفحتها الأولى حتى الختام، إلى أقسام معنونة بأسماء، ما هي الشخصيات الساردة لسيرتها الذاتية، ما في مجمله هو السياق السردي، هذا يمكننا من القول إنها رواية الشخصيات، التي راويها الأول يدعى (حيدر)، وآخرها (قناوي)، والأسماء بشكل ما حاملة لدال في سياق الرواية.

السؤال كيف لقاريء "مملكة الأزرار" أن يقرّ بهكذا متناقضات؟، باديء ذي بدء أكرر قولي الدائم، ما أستدل به وما مرجعيته المفكر الناقد رولان بارت، لا قراءة لنص دون تعاطف معه.

ومن هذا فإن كل نص حامل تناقضاته في مجمل مستوياته، ومن ذا كل نص ناقص، فمهمة القراءة الاستمتاعية، ألا تغفل عن الجمال في القبيح، وعن الخطأ في سياق الصواب. وهذه الرواية لا تحرم القاريء ولا تجهض استمتاعه، لأنها "مملكة الحشد" السردي، ما ينهك القاريء باستطرادات سردية كما أشرنا، فالنسق مثقل لكن لا يخرج عن سكة سياقه السردي، هذا من جهة، ومن أخرى فإن للمضاف إليه جماليات تؤهله، أن يكون نصا تحتمل حواشيه وزوائده، ما تنبيء عن أن "مملكة الأزرار" مفتتح محمد محمود عطية لآفاق المشروع الروائي.