Atwasat

دروس من الأرانب

محمد عقيلة العمامي الإثنين 05 ديسمبر 2022, 02:27 مساء
محمد عقيلة العمامي

بعد مراقبة متصلة ودقيقة عرف الطفل (جاك كويل) وهو في العاشرة من عمره أن الأرنب البري لا يحفر جُحره إلا بعد أن يدرس حركة الريح، وتصاريف مياه الأمطار، وحركة نور الشمس المتغيرة بتواصل النهار، وفوق ذلك سلوك الحيوانات المفترسة! ولذلك موهبة الهندسة الفطرية التي شب بها جعلت منه مهندس قصور، واستراحات رجال المال والملوك؛ لأن ذلك الطفل الذي تعلم من الأرانب، أصبح مهندسًا معماريًا لم يتخرج في جامعة على الإطلاق! ومع ذلك يعد متميزًا للغاية في إبداعات الهندسة المعمارية الحديثة.

لقد علّم نفسه بعيدًا عن أروقة الجامعات وقاعات محاضرات العلوم الهندسية، بل ركز على دراسة المعمار وعلاقته بالطبيعة، وهذا ما جعله العام 1946 يؤسس (مركز أبحاث الهياكل الطبيعية)، ويبدع في تشكيل هذه الهياكل الخرسانية المصممة والمنحوتة، وفق فن هذا النحت المعماري الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، (جاك كويل 1929-2020) شخصية موهوبة ذكية غريبة الأطوار، كان صديقًا للفنانين (بابلو بيكاسو) و(سلفادور دالي)، منح وسام جوقة الشرف من الأكاديمية الفرنسية.

وما إن تمكن من توظيف موهبته، حتى اشتهر وتوالت تصاميمه: صمم قصرًا لملك اليونان، وآخر لرئيس السنغال، ونفذ مشاريع عمرانية لحكومتي الجزائر والمغرب، ويقدر ما صممه حوالي 2000 منزل و30 فندقًا في عدد من دول العالم، وهو، على سبيل المثال، مصمم المنتجع الفرنسي البحري (ماريتيم)، وقصر (القفص الذهبي) في سردينيا، و(اكروبولس المدينة السوداء) في السنغال، وغيرها ما أصبحت مزارات عالمية.

ما إن قرأت هذه المعلومات، حتى تذكرت أنني وعيت كشاهد عيان على معمار متميز ومختلف، تطور أشكاله وألوانه في مدينتي بنغازي، التي وصفها الراحل صادق النيهوم، بأنها أروع الأمهات، وعيت على جمال مبنى مجلس الشيوخ، القائم أمام شارع محمد موسى، حيث قضيت طفولتي وجزءًا من صبايا، وهو الذي أصبح مبنى لإدارة الجامعة الليبية، والذي هُدم دون سبب يذكر، وقصر المنار، وسينما البرنتشي، والبلاص الحمر، ومبانٍ متنوعة أخرى.

وعيت كيف كانت تُشيد منازلنا، وكيف يتأسس سقف البيت من سيقان أشجار، تسمى (صنّور) ويرص فوقها (تفن البحر)، وهي النباتات البحرية التي يلفظها البحر، وتمزج بالطين لتعد منها الأسقف، والتي تُصبح مراعٍ لحشرة البق اللعينة، ولكن من بعد منتصف الخمسينيات بدأت أسقف خشب مصقول وأحيانًا منقوش أو مزين ومن فوقها تفن البحر، ولكن سريعًا ما دخل الإسمنت والخرسانات المسلحة.

ومنذ بدأ تصدير النفط في مطلع ستينيات القرن الماضي، بدأ الإسمنت المسلح المادة الفعالة في تشييد البيوت وأسقفها الحديثة، وأصبحت تصاميم المنازل والدارات، من تصاميم الذوق المصري، فالخرائط كانت تعد هناك وتنفذ في بنغازي.

في مطلع السبعينيات تأسس مكتب هندسي شراكة ما بين المهندس نجيب مازق، رحمه الله، والمهندس المصري حسين فهمي، وانتشرت تصاميم دارات جميلة تميزت باللونين البني الداكن والفاتح، وأخذت (البلكونات) مساحات كبيرة، ولكنها ظلت من دون الجلسات العائلية التي نراها في مصر على سبيل المثال!
ولكن لماذا أحدثكم عن معلومات لا يزال الكثيرون منا يعرفونها؟ لأنني ببساطة غبت فترة عن بنغازي، وأول ما لفت انتباهي بعد عودتي، سطوة اللون الأبيض، وغياب البلكونات، وذلك يعني أن المساحات المتروكة بدون استغلال أصبحت داخل الدارة وبالتالي مستغلة.

وحتى لا أطيل عليكم، أقول إن إبداع الإنسان، كأنه كائن، يحيا معه يتطور وينتهي، لا يبقى أبدًا على حال، فهو كالحياة.. أو بمعنى أدق يولد ويعيش ويموت، هكذا كان الحال منذ غادر الإنسان الكهوف وابتكر مسكنًا يعود إليه بصيده الذي قد يكون استهله بصيد الأرانب، التي تعلّم منها، هذا المهندس الموهوب، وتعلم منها أيضًا صادق النيهوم، الذي تشبّه بها وقال في واحدة من كتاباته: «إننا كالأرانب لا نأكل أحدًا، ولا نحب أحد أن يأكلنا!"»، وأنا والكثيرون من أصدقائي مثله، وإن كان كثيرون منا، لا يزالون يجاهدون ألا يأكلوا أحدًا، خصوصًا الأرانب!