Atwasat

موت الرئيس في دالاس (2-2)

سالم الكبتي الأربعاء 30 نوفمبر 2022, 02:06 مساء
سالم الكبتي

.. وأيضاً لم يكتف المعارضون للزيارة بهذا فقط فقد عرضوا صوراً أخرى مخجلة للرئيس على طريقة عرض صور المجرمين والمشبوهين فظهرت إحدى صوره في بعض جرائد دالاس مجللة بالخطوط السود مثل علامة الحداد التي غطت وجهه بالكامل. لم يكن الاستقبال حاتمياً فقط لكنه كان يضخ حقداً وكراهية اللذين غذيا كل المشاعر اللعينة الأخرى.

إن دالاس عاشت عشية الإعلان عن الزيارة المرتقبة أجواء ساخنة ولم تهدأ مع مشرق الشمس وظهيرة استقبال الرئيس وتأرجحت ما بين مؤيد ومعارض ثم أنه لا أحد كان يعرف على مستوى الولاية أو البيت الأبيض أو العالم برمته ماذا يخبئ القدر للرئيس القادم من العاصمة.. من مكتبه البيضاوي.

كان يود أن يحتفل مثل أي مواطن أميركي بعيد الشكر الذي يوافق آخر خميس كالعادة من شهر نوفمبر ويذبح ديكه الرومي بالمناسبة مع الملايين لكن ذلك بات بعيد الاحتمال تماماً. أجهزت دالاس على الرئيس والبهجة بالعيد من فوق مخزن الكتب الذي يقبع خلاله القاتل لي هارفي أوزوولد.

طاردت الأقاويل والاتهامات المغرضة الرئيس دون أي مبرر والعجيب أنها جرت بهذا الشكل في ظاهرة لا مثيل لها في الغالب في التاريخ الأميركي المعاصر. هناك تحدٍ للرئيس وترصد لقتله وسوء نية في الأساس. لقد قاده حتفه إلى دالاس تلك العشية بسهولة بالغة ووقع في كهف الضباع أمام العالم كله.

ذلك كان شأن رئيس أكبر دولة في العالم اختل فيها ميزان العامل الأمني الدقيق والإحاطة به لحظة بلحظة واتضح أن حياة الرئيس رخيصة جداً وليست باهظة الثمن. لقد ملأت الملصقات الجدران بالعبارات المفعمة بذلك التحدي والاتهام وكذا الجرائد وكان هناك في الخفاء من سيقوم بالاستجابة لذلك التحدي.

ويعرض وليم مانشستر في موت رئيس جمهورية إلى أن التهم كانت خطيرة وتتابعت على نحو لم يسبق له مثيل فقد أشير إلى كيندي بأنه خان الدستور الذي أقسم أن يحافظ عليه وسلم سياسة بلاده إلى الأمم المتحدة.. المنظمة التي يسيطر عليها الشيوعيون وخان أصدقاءنا الذين ندعمهم ضد التيارات المعادية في كوبا وكاتنجا والبرتغال لكي يعمل على إرضاء أعداء أميركا في روسيا ويوغسلافيا وبولندا.

وتهمة أخرى أنه كان مخطئاً مرات لا تحصى في تقدير مسائل تخص أمن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالأمم المتحدة وجدار برلين وإخلاء قواعد الصواريخ في كوبا واتفاقات بيع الدقيق وإيقاف التجارب الذرية فيما أبدى تردداً واضحاً في فرض قوانين التسجيل بالنسبة للشيوعيين وأمد بالحماية والتشجيع الاضطرابات العنصرية الموحى بها من قبل الشيوعيين وقام بغزو ولاية ذات سيادة بقوات فيدرالية وبطريقة غير قانونية ثم قام أيضاً بتعيين عناصر معادية للمسيحيين في وظائف الحكومة الفيدرالية وساند المحكمة العليا في قراراتها المخالفة لروح المسيحية وأسند للأجانب والشيوعيين المعروفين وظائف مهمة في حكومة الاتحاد ثم أخيراً ثبت تورطه في الكذب الذي لا يمكن تصوره على الشعب الأميركي إضافة إلى أكاذيبه عن شؤونه الخاصة مثل قصة زواجه السابق وطلاقه.

عند هذا الحد انتهت كتلة الاتهامات التي وردت في الكتاب الذي قام بترجمته ترجمة فائقة الصادق النيهوم مطلع العام 1967.

ولكن الخطوات لم تتوقف فإن هذه النقاط التي تكيل اتهامات خطيرة للرئيس كفيلة بأن تقوده إلى الإعدام ولاشيء سواه وهي تتجلى بطريقة مكارثية كالتي جرت للمثقفين في أميركا نهاية الثلاثينيات وحتى الخمسينيات في حملة مكارثي المشهورة ضد كل من تحوم عليه تهمة اليسار أو رائحة الشيوعية. وهذه الاتهامات في الواقع من جهة ثانية تلوح وكأنها أيضاً حكم بالقضاء على الرئيس وهذا ما جرى بالفعل في دالاس أمام أعين المخبرين ورجال البوليس والمباحث الفيدرالية.

إن الأمر هنا لا يبدو بأنه لعبة أو مغامرة لكنه كان فعلا وراءه جهة أو جهات مجهولة عملت بمهارة فائقة وأخفت أوراق القضية أمام أنظار العالم كله. فلم يعد ثمة من يتحدث عن الموضوع في في ذكراها الستين ولم يعد ثمة من يدعو إلى نبشه وإعادة التحقيق فيه على سبيل المثال. لقد انتهى كل شيء واختفى كل شيء في الخزائن الرهيبة.

وحين وقع الاغتيال اهتزت له أميركا كلها. وزير الخارجية دين راسك كان متجهاً لزيارة في الخارج.

علم بالخبر في الجو وقطع الزيارة وعاد ليظل قريباً من الأحداث واستنفرت القواعد العسكرية الأميركية في كل مكان. تعاطف العالم مع الرئيس الشاب الذي ضرجت دماءه السائلة من رأسه ملابس زوجته والسيارة الرئيسية فيما أصيب حاكم الولاية بإصابات بليغة وشعر العالم بالحزن وأقسم نائبه ليندون جونسون الذي دارت حوله الشبهات في قصة الاغتيال.. أقسم اليمين في الطائرة التي تحمل النعش عائدة إلى واشنطن ليكون الرئيس السادس والثلاثين.

وأقيمت الجنازة المهيبة للرئيس..خرجت من البيت الأبيض بعد الاغتيال بثلاثة أيام واتجهت صوب المقبرة الوطنية وحضرها كبار الزعماء في العالم.

وعندنا في ليبيا تلك الأيام أعلن الحداد العام ونكست الأعلام وأناب الملك إدريس كبير تشريفاته لحضور القداس الفخم الذي أقيم على روح كيندي في كاتدرائية طرابلس الكبرى في ميدان الجزائر ونعته الدولة من خلال تعليقه الرسمي اليومي في الإذاعة بعنوان (مات كيندي رجل السلام) قرأه بصوت مؤثر فتحي بوهادي ونشر في الجرائد كلها صباح اليوم التالي. تولى جونسون الرئاسة وسارت أميركا في اتجاه آخر وتشكلت لجنة «وارين» للتحقيق في ما حدث ووصلت إلى طرق مسدودة وليست طريقاً واحدة فقط.

اللجنة استغرقت في تحقيقاتها المملة الكثير من المجلدات والملفات الضخمة دون جدوى ومات كيندي بسره.. بسر الاغتيال. أميركا تعرف الأسرار كلها وتعرف كيف تخفيها وكيف تستخدمها وكيف تفصح عنها في أي يوم من الأيام إذا أرادت أما غير ذلك فلا.

ومن المقارنات العجيبة التي برزت عقب الاغتيال من الناحية التاريخية كانت تقارن بين اغتيال الرئيسين إبراهام لنكولن وجون كيندي فقد تشابهات بطريقة غير عادية: انتخب كيندي العام 1960 وانتخب لنكولن العام 1860 وكلاهما قتل برصاصة من الخلف وكانت تصحبه زوجته وخلف كيندي لندون جونسون الذي ولد العام 1908 فيما خلف لنكولن أندرو جونسون الذي ولد العام 1808 واسم كيندي يتكون من سبعة أحرف وكذا لنكولن وسكرتير كيندي اسمه لنكولن وقد نصحه ألا يذهب إلى دالاس واسم سكرتير لنكولن اسمه كيندي ونصحه ألا يذهب إلى المسرح.

قتل كيندي لي هاردي أوزوولد ويتكون اسمه من خمسة عشر حرفاً وقاتل لنكولن كذلك واسمه جون ويلكس بوت وكلا القاتلين قتلا قبل المحاكمة وقاتل كيندي ولد العام 1939 فيما ولد قاتل لنكولن العام 1839.

بعد الاغتيال بأعوام تزوجت جاكي أرملة كيندي من أوناسيس أسطورة المال اليوناني وظلت اللعنة تلاحق أل كيندي مرارا بطريقة أو بأخرى. اغتيل شقيقه روبرت وزير العدل صيف 1968 أثناء حملة انتخابية واتهم الفلسطيني بشارة سرحان بذلك وأودع السجن واتضح لاحقا بطلان التهمة من أساسها بعد اطلاقه في العام الماضي 2021.

نصف قرن من عمره ضاع في القلق والفراغ. تلك هي أميركا على الدوام. تبهر العالم لكنها كثيراً ما تنطفئ.

ظل المهتمون يتابعون الحقيقة الغائبة في الاغتيال فانبرى للمهمة الصحفي وليام مانشستر وبمساعدة جاكلين كيندي وآخرين أصدر كتابه موت رئيس جمهورية في مطلع العام 1967 واعتبر كتاب الموسم وأثار العديد من التساؤلات والاهتمام ومباشرة في العالم العربي صدرت له في ذات الفترة الترجمتان .. الأولى في القاهرة ونشرتها جريدة الأهرام وقام بها يوسف الصباغ ونشرها في يناير 1967 والثانية قام بها الصادق النيهوم على حلقات متوالية في جريدة الحقيقة ببنغازي في عددها اليومي من يناير وحتى إبريل 1967.

الكتاب نفدت طبعاته عدة مرات وأبان الكثير من الحقائق والتفاصيل لكنه مثل غيره وقف أمام كل الطرق المسدودة والدروب المغلقة .. فهل أميركا لا تزال عاجزة إلى هذا الحد لا تريد أن تفصح عن موت رئيسها الخامس والثلاثين في دالاس؟!