Atwasat

واترلو

جمعة بوكليب الأربعاء 30 نوفمبر 2022, 02:02 مساء
جمعة بوكليب

صيف العام 1975. توقف قطار قادم من مدينة بورمث، لدى وصوله إلى لندن، في محطته الأخيرة. كان يوم سبت، أول أيام عطلة الأسبوع. وكان الوقت صباحاً. ربما لذلك السبب لم يكن القطار مزدحماً.

غادر المسافرون عربات القطار، باتجاه بوابة الخروج. نهض شاب غريب من مقعده مغادراً مثلهم. على الرصيف، حيث وقف القطار، كانت امرأة عجوز تكنس الأرضية. سألها الشاب بأدب: هل هذه المحطة فكتوريا؟
واترلو. ردت المرأة من دون أن تلتفت نحوه، وواصلت عملها.

فسّر الشاب عدم نظر المرأة إليه، بأنه قلة أدب منها. لكنّه، فيما بعد، تذكر أنه سألها دون أن يبادرها بتحية الصباح، كما تقتضي الأصول. قال في نفسه: «البادي أظلم».

كانت تلك المرة الأولى، التي يسمع بها ذاك الشاب بوجود محطة قطارات اسمها واترلو. والتقطت ذاكرته ذلك الاسم الغريب والموقف بتفاصيله، وأرشفته سريعاً. وقتذاك، كانت ذاكرة الشاب فتية مثله، وفضولية مثله، وغريبة في ذلك المكان مثله. ولا يفوتها شيء، ولم يُعرف عنها السهو أو النسيان بعد.

ورغم مرور السنين، وما اعتلاها من وهن، حرصت ذاكرة ذلك الشاب على الاحتفاظ بتلك اللحظات طرية. وكانت، أيضاً، المرة الأولى التي تطأ فيها قدماه أرضاً لندنية.

في صيف 1815، تقول المصادر التاريخية إنه في قرية تقع حالياً ببلجيكا، اسمها واترلو، خسر الجنرال نابليون بونابرت معركته الأخيرة في أوروبا، وتلاشت أحلامه في بناء امبراطورية فرنسية. تلك المعركة كانت الأخيرة ضمن سلسلة من المعارك، استمرت 23 عاماً، ضد تحالف أوروبي بقيادة بريطانيا وبروسيا.

الجيش الفرنسي خاض المعركة ضد أربعة جيوش. المصادر التاريخية تقول إن عدد الضحايا الفرنسيين في تلك المعركة قارب عدد 50 ألفاً. وخسر الفرنسيون، في آن معاً، معركة واترلو والحرب. وقضى الجنرال نونابرت بقية عمره منفياً في جزيرة سانت هيلانه، تأكله حسرة على ضياع حلم عمره.

حين بدأ البريطانيون في بناء شبكة القطارات، في أواخر القرن التاسع عشر، في العاصمة لندن، أطلقوا اسم واترلو على أولى المحطات. المحطة الحالية تقع ضمن الحدود الإدارية للمجلس البلدي «لامبيث». وتقع على مسافة قريبة جداً من نهر الثيمز، ومقر البرلمان في قرية ويستمنستر. وهي من أكبر المحطات في لندن من حيث المساحة الأرضية، تصل العاصمة بغرب وجنوب غرب إنجلترا. وبها محطة قطارات أنفاق بعدة خطوط. ويؤمها سنوياً قرابة 100 مليون شخص بين قادم ومغادر، حسب الإحصاءات الرسمية المنشورة.

في العام 1994 لدى الانتهاء من بناء النفق البحري الرابط بين ضفتي بحر المانش الفرنسية والبريطانية، عمل البريطانيون بخبث أن تكون محطة لندن-واترلو أول محطة ينزل بها المسافرون القادمون من الضفة الفرنسية. الهدف من ذلك كان تذكيرهم بتلك الهزيمة. في البداية، أدرك المسؤولون الفرنسيون المقصود من الغرض، وبلعوا الإهانة، رغبة في تجنّب المشاكل.

لكن عقب مرور فترة قصيرة، بدأ يعلو صوت الاحتجاج. في وسائل الإعلام الفرنسية، وشكل ضغوطاً على حكومة باريس، فجاهرت بالشكوى. كان الفرنسيون، عبر وسائل إعلامهم، يتساءلون كيف يمكن بناء علاقات ودية، وتناسي عداوات وأحقاد الماضي، إذا أصر البريطانيون على تذكيرهم بتلك الهزيمة، لدى وصولهم إلى لندن؟

الحكومة البريطانية استجابت للشكوى إيجابياً، تعبيراً عن حسن النية أو اعتذاراً. وعملت بدورها على تغيير منطقة الوصول إلى محطة «سانت بانكراس» الملاصقة لمحطة قطارات «لندن- كنجز كروس». وفي العام 2007، استقبلت المحطة الجديدة أول فوج من مسافرين قادمين من الضفة الفرنسية.

محطة لندن- واترلوا، تميّزت عن غيرها من المحطات، باستقطابها لاهتمامات الفنانين والمغنيين والكتاب والشعراء، بكونها مصدر إلهام لهم. وشخصياً، لا أعرف سر ذلك الانجذاب الذي نجده في كثير من الأغاني المشهورة، وفي العديد من القصائد الشعرية. فهي، من الأخير، محطة قطارات مثل غيرها. الغريب، أن ذلك الاهتمام والاستقطاب بالمحطة، تجاوز الكتَّاب البريطانيين إلى غيرهم من الكتَّاب في لغات أخرى. المرحوم الشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي كان واحداً منهم، وأذكر أني قرأت له قصيدة، ولم أعد أذكر في أيّ من دواوينه الشعرية، عن قصة حب، وُلدت في تلك المحطة، مع امرأة التقاها هناك.

ربما يعود ذلك الاهتمام، في رأيي، إلى المنطقة التي تقع بها المحطة، كونها قريبة من النهر، وقريبة من منطقة ساوث بانك المشهورة بمتاحفها ومقاهييها وحاناتها ومسارحها ومكتباتها. وقد يكون لأسباب أخرى شخصية، أو غير شخصية، ولا أعرفها.

في يوم الأربعاء الماضي، وجدتني في تلك المحطة. فتذكرتُ ذلك الشاب، وهو يغادر قطاراً صباحياً قادماً من مدينة بورمث، ويقف على رصيف المحطة متردداً، وبقلب تتسارع دقاته، وهو في طريقه إلى لقاء مدينة لا تعرفه، ويلتقيها للمرة الأولى.