Atwasat

الصداقة والاختلاف

سالم العوكلي الثلاثاء 29 نوفمبر 2022, 02:38 مساء
سالم العوكلي

ثمة فارق بين الأصدقاء والرفاق، فالرفقة تعني مجموعة من الأشخاص يجمعهم مشروع واحد، أو جمعتهم ظروف عسف في سجن أو منفى، فهم يأتلفون في جماعة للدفاع عن أنفسهم وعن مصالحهم، خصوصاً في مجتمعات القمع حين ينخرطون كمثقفين في السياسة وفي الشأن العام، وعادة ما يتفرق الرفاق حين تتصادم أفكارهم أو حين ينتهي الخصم أو العائق الذي وحَّدَهم، يحدث هذا غالباً مع رفاق تجمعوا في حزب، أو مجلة تدافع عن رؤاهم، أو في جمعية أهلية، وحين ينزاح التهديد يمضي كل إلى سبيله، وأحياناً يتحولون إلى خصومة تصل بهم حتى العداوة، أما الصداقة فهي أعمق وأسمى من ذلك لأنها القيمة العليا في كل العلاقات الإنسانية، تتجاوز الخلاقات بل تجعلها رافداً قوياً لهذه الصداقة، والصديق هو الذي تفكر معه بصوت عالٍ، وهو من يستوعبك بكل عيوبك وأخطائك.

وقد تتحول الرفقة إلى صداقة فعلية حين يعززها الوعي بأهمية التكامل والقدرة على التسامح، واستيعاب أن «المعارضة هي الصداقة الحقيقية» كما يقول وليم بليك.
وقد شكل مفهوم الصداقة انشغالات الفلسفة منذ عصورها الأولى، وحوى كتاب (المحاورات) على نقاشات فلسفية مهمة، تتقصى جوهر هذه العلاقة الخارجة عن علاقات القرابة أو الرفقات الإجبارية التي تحددها اهتمامات الحياة مثل الوظائف، أو الهموم المشتركة، أو الاحتشاد في وجه خطر يهدد المجموع.

ويتفق معظم الفلاسفة والمحللين النفسيين والاجتماعيين على أن الصداقة من النزعات الإنسانية الفطرية التي يحتاجها البشر روحياً وأخلاقياً ونفسياً، وقد زخر تراث كل أمة بما يعزز هذه العلاقة من حكايات ووصايا وأمثلة وشعائر، بينما توجه الفحص الفلسفي لهذه العلاقة إلى مفهومها الوجودي، انطلاقاً من مثنوية الخير والشر التي تمحورت حولها الفلسفة الأخلاقية منذ بداياتها، والإنسان كجوهر يعيش حالة وسط بين الكمال المطلق المتمثل في الخير، والنقص المطلق المتمثل في الشر، ووفق الرؤية الأفلاطونية يمكن البحث عن جوهر الصداقة في هذه المنطقة الوسطى التي تقبع بين الكمالين.

يرى أفلاطون أن الإنسان الذي يحوز بالمطلق صفات الخير لن يكون في حاجة لصديق، لأنه مكتفٍ بذاته الخيّرة، بينما من يتصف بالشر لا يرغب أساساً في الوصول إلى الكمال، وبالتالي من يعش في مسافة الوسط بين الخير والشر هو من يبحث عن الكمال عبر إنشاء صداقات منتقاة طموحها الأساسي البحث عن الاكتمال، وهذا ما يفسر بدوره، حسب رؤية أفلاطون وبعض تابعيه، استحالة قيام صداقة حقيقية بين الشبيهين أو بين النقيضين، بل تتحقق بين مختلفين بينهما مشترك يعزز هذه الرغبة في التكامل أو التعاضد القيمي من أجل الاكتمال، وبالتالي، غير وارد أن تنشأ صداقة بين العارف تماماً والجاهل تماماً، ولكن بين ما لا يعرف تماماً وبين من لا يجهل تماماً.

من جانب آخر يعارض سقراط هذه الثنائية التي يعتمد عليها أفلاطون، ويرى أن التكامل يذهب أكثر من ذلك، بل يشمل النقيضين الضروريين للصداقة، باعتبار الفرد لا يمكن أن يُنشيء صداقة مع من يشبهه، ومن خلال مناقشة بين سقراط ومنكسينوس "يخبره سقراط بأنه شخص لم يشغل قلبه منذ طفولته فصاعدا سوى الولع بالأصدقاء، وأنه يفضل الصديق الخيّر على أى شيء آخر، وأنه يذهل ويبتهج عندما يراه هو وليسيوس فى سنهما المبكرة هذه، وقد امتلكا بسهولة هذه الثروة، بينما هو برغم تقدمه فى السن لم يحصل على صديق ولا يعرف حتى كيف يكتسب الصديق، لذلك فهو يريد أن يسأله سؤالا حول هذا لخبرته؛ فيسأله: عندما يحب شخصا آخر من يكون الصديق؟ المُّحِب، أو المحبوب، أو كلاهما يكون الصديق؟ يرفض سقراط اقتراح منكسينوس أن كليهما صديقين بالتبادل إذا كان أحدهما فقط يحب الآخر؛ لأنه قد يكون المحبوب لا يبادل الطرف الآخر الحب. ويتساءل سقراط: إذن هل لا توجد صداقة على الإطلاق ما لم يكن هناك حب متبادل؟ يرفض سقراط هذا المعنى أيضاً فهناك من يحبون طيور السمان أو الكلاب أو النبيذ أو الألعاب الرياضية رغم أن هذه الأشياء لا تبادلهم الحب. ثم يرفض أيضا أن يكون المحبوب عزيزا على المحِب سواء أحبه فى المقابل أو لا. لأنه فى هذه الحالة يمكن أن يكون الإنسان صديقا لمن يكرهه أى صديقا لعدوه وهذه سخيف، ولا يتبقى إلا أن يكون المحِب هو صديق المحبوب ويرفض سقراط هذا الاحتمال أيضا؛ لأنه كما فى الحالة السابقة يمكن أن يكون الإنسان صديقا لمن يكرهه أى لعدوه، أو عدواً لصديقه. كما تذكر أميمة ضياء الدين، في بحثها (الصداقة من منظور فلسفى: بين محاورة «ليسيس» لأفلاطون و«الأخلاق» الأرسطية).

يتناول سقراط بعد ذلك رأيا آخر يذهب إلى أن الشبيه أكبر عدو للشبيه، فالشبيه يمتلئ بالبغض نحو شبيهه، وغير الشبيه يمتلئ بالصداقة، فالفقير يضطر أن يكون صديقا للغنى، والضعيف يحتاج مساعدة القوى، والمريض مساعدة الطبيب، وكل جاهل لابد أن يحب ويتودد إلى ذى المعرفة.

يعتبر أرسطو، صاحب مقولة «عداوة العاقل أفضل من صداقة الجاهل» أن الصداقة تتضمن الفضيلة، ولا يمكن للإنسان أن يقوى على الحياة، او يحوز وجودا بدونها، مهما غمرته الأشياء الخيرة، ويحدد ثلاثة جاذبيات لآخر يكون مقربا من النفس والجسد، تتحقق بموجبها الصداقة: المنفعة التي تمثل في ما يحصل عليه الفرد من هذه العلاقة مقابل ما يعطيه، واللذة المرتبطة بشعور البهجة وحس الألفة مع الرفيق، والفضيلة التي تنعكس في علاقة التواد بين أفراد المجتمع الخيرين، ويقر أرسطو بأن صداقة الفضيلة التي تتحقق فيها المنفعة واللذة هي أسمى أنواع الصداقة.

راود تاريخ الفلسفة الأخلاقية تجليات هذه العلاقة عبر متغيرات زمنية كانت تنتج قيما جديدة لشتى أنواع العلاقات الإنسانية التي تتعقد مع الزمن، لكن بعيدا عن النظرية ستظل صداقة سارتر وكامو إحدى الحكايات الفلسفية التي تمشي على الأرض، بكل ما شابها من ارتباك واختلاف في الرأي، وبكل ما اعتراها من غيرة أو حسد أحيانا، وكان الاثنان أكبر ممثلي لفلسفتين سيطرا على المناخ الثقافي والسياسي إبان صداقتهما: الفلسفة الوجودية بدايةً، ثم الفكر الشيوعي الذي تمثَّلَه كل واحد منهما بطريقته (انضم كامو إلى الحزب الشيوعي أما سارتر فلم ينضم) غير أن ثنائية العدالة والحرية كانت محور اختلافهما الذي أدى إلى خلافات حادة، فكان سارتر متطرفا حيال أهداف الشيوعية التي يجب ان تتحقق مهما كان الثمن، بينما كامو كان يقدم الحرية على العدالة، وناقدا جذريا للعنف الذي صاحب وعود الشيوعية بتحقيق اليوتوبيا البشرية، ومن خلال هذا الجدل ظهر نوع من الإطراء والقدح المتبادل بينهما، ومن الصحبة التي تضمر عداءً، وكانت جريدة الأزمنة الحديثة تزيد من طباعاتها بسبب هذا النقاش الحاد بين أبرز شخصيتين ثقافيتين في فرنسا. وتفنيد كامو لأطروحة سارتر حيال إمكانية الجمع بين العدالة والحرية في النموذج الشيوعي أدى بسارتر إلى أن يسمي كامو في أحد مقالاته بـ "قنفذ الشارع من الجزائر"، لكن، حين تحصل كامو العام 1957 على جائزة نوبل للآداب، وسُئِل في المؤتمر الصحفي للجائزة عن علاقته بسارتر، ضحك قائلا، إن العلاقة على أحسن ما يرام لأن أفضل العلاقات هي تلك التي لا يلتقي طرفاها ببعضهما بعضا، أو كما يقول وليم بليك: لقد جعلت صداقتك كثيرًا قلبي يتألم: كن عدوي من أجل الصداقة، بينما يقول إيرفينغ ستون: "لا توجد صداقة أقوى من تلك التي تجمع من يحبون الكتب ذاتها" وربما حب سارتر وكامو لنيتشه وكيركيغارد ما شكل لب صداقتهما قبل أن تشعل السياسة فتيل العداء بينهما، أو قوة التشابه بينهما حالت دون أن تكون صداقتهما على ما يرام.

نشهد الآن، في خضم ما يمر به العالم من أحداث، وما تمر به بلدنا، تصدعات كثيرة في الصداقات، خصوصاً بين مثقفين لم تجمعهم رفقة المشروع فقط ولكن شروط الصداقة الحقة والعِشرة الطويلة، وفي مظهر واضح لا يفرق بين الاختلاف فس الرأي وجوهر الصداقة التي تتطلب هذا الاختلاف بالذات كي تستمر.

يقول الروائي التشيكي ميلان كوندير: «في زمن تقديم الحساب، يكون الجرح الأشد إيلاماً هو الناتج عن الصداقات المتصدعة؛ فلا شيء أغبى من التضحية بصداقة من أجل السياسة، وأنا فخور بأنني لم أقم بذلك أبداً. أنا قدرت ميتيران بسبب استمراريته في إخلاصه لأصدقائه القدامى، ما جعله هدفاً لهجومات عنيفة خلال المرحلة الأخيرة من حياته . إن ذلك الإخلاص هو ما شكل نبله».

أو كما قال إيميل سيوران: كلما مرت السنوات انخفض عدد الذين نستطيع التفاهم معهم، ويومَ لن نجد شخصاً نتحدث إليه، نكون أخيراً كما كنا قبل أن نسقط في اسم.