Atwasat

مواقف الرائد عبدالسلام جلود السياسية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 20 نوفمبر 2022, 03:18 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

جرى، الأيام القليلة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي، تداول صورة مؤسفة ومحزنة (ولا أعتبرها مزرية) للرائد عبدالسلام جلود، الشخصية السياسية الليبية المعروفة، وهو ببدلة رياضية قريبة من الرثاثة ويتمشى في حدائق الشانزليزيه (ترجمتها العربية: رياض الصالحين) في حالة انعدام هدف وشرود بادٍ.

ما أريد أن أصب عليه اهتمامي هنا هو إبراز توجه جلود الإيجابي في السياسة الليبية إبان حقبة سيادة نظام معمر القذافي (نعم: نظام معمر القذافي، وليس نظام ثورة الفاتح من سبتمبر) على الأقل في الفترة الواقعة بين العامين 1969- 1990.

أعتقد أن جلود كان محكوماً في تحركه السياسي بعاملين اثنين، العامل الأول خارجي، وهي القيود التي فرضها معمر القذافي على مجمل تحركه واتصاله بالجماهير، والثاني متعلق بالطبيعة الشخصية لجلود نفسه المتمثلة في عدم إجادته التحدث إلى التجمعات والملتقيات ومخاطبتهم بشكل متدفق ومرن، وهي القدرة التي كان يتمتع بها معمر القذافي.

وجلود، في تصوري، كان مقبولاً ومؤيداً ومفضلًا من بعض النخب في المجتمع الليبي، تتوزع هذه النخب على قطاع ضئيل العدد من المثقفين (بمن في ذلك بعض المثقفين داخل اللجان الثورية)، وعدد لا بأس به بين ضباط الجيش الحريصين على الحفاظ على مؤسسة عسكرية محترفة، وبعض ضباط الشرطة والأجهزة الأمنية التي أصبحت اللجان الثورية تفتك منها بعض صلاحياتها وما أدخلته عملية تطبيق "الأمن الشعبي المحلي» من فوضى وتشويش على عمل هذه الأجهزة، إضافة إلى تأييد واسع بين شريحة التكنوقراط التي يهمها الاشتغال من خلال مؤسسات وظيفية محكومة بقوانينها وطبيعة مهامها الخاصة.

وهذا يعني أنه في الوقت الذي كان فيه معمر القذافي يسعى إلى إقامة «نظام الزعيم الأوحد" الاسبدادي الشمولي، كان جلود مهتماً بالجانب الإداري العملي وبناء نظام أكثر عقلانية وأقل تسلطاً، فمنذ البداية اكتسب جلود خبرة في ممارسة المسائل الإدارية من خلال توليه عملية المفاوضات مع شركات النفط المتعلقة بما عرف حينها بـ «تصحيح الأسعار».

وفي الأزمات التي يمر بها النظام كان جلود هو المدير الفعلي للدولة، وقد تجلى هذا بعد الغارة الأنجلو- أمريكية التي شنت على ليبيا في 16 أبريل 1986، حيث ارتبك معمر القذافي ودخل في حالة من عدم التوازن النفسي، كما أن جلود هو الذي كان ضد تسليم المقرحي وفهيمة، المتهمين من قبل أمريكا وبريطانيا بالضلوع في تفجير طائرة البانام الأمريكية فوق قرية لوكيربي باسكتلندا، والتي عُرفت بـ «قضية لوكيربي»، الذين تطالب أمريكا وبريطانيا بتسليمهما لها، علماً بأن معمر القذافي كان موافقاً على التسليم بشرط واحد وهو أن تتوقف عملية التحقيق عندهما ولا تعلوهما في البحث عن «سلسلة الأوامر Chain of commands» قد يقول قائل إن دافع جلود في هذا أن المقرحي ينتمي إلى قبيلة المقارحة التي ينتمي إليها جلود، لا أنفي تأثير هذا الجانب في حماسة جلود في هذا السياق، لكنني لا أعتقد أنه الدافع القاعدي.

طفا الخلاف بين جلود ومعمر القذافي على السطح في ملتقى اللجان الثورية الذي عقد سنة 1986، حيث خطب فيه جلود وقال، على نحو صريح، إن المواطن لم ير من اللجان الثورية سوى الوجه القمعي، وطالب بأن تحدد مهام اللجان الثورية وأعضاء اللجان الثورية في لوائح واضحة تمارس وفق المهام تلقائياً بدلًا من أن تظل تنتظر الأوامر، أي أنه كان يطالب بأن تتحول اللجان الثورية إلى تنظيم سياسي مهيكل على غرار ما هو عليه الشأن في التنظيمات السياسية في العالم.

وهذا الأمر يخيف، بطبيعة الحال، معمر القذافي، بل يرعبه، لما يعنيه ذلك من تحول اللجان الثورية إلى تنظيم بالمقاييس المتبعة الأمر الذي يجعل هذا التنظيم يتمتع بقدر من الاستقلالية، ويصبح معرضاً للتطورات الداخلية والتجنحات وبروز قيادات ذات شأن قد تؤثر على سلطته، لذا سارع معمر القذافي، بما عُرف عنه من حركات بهلوانية، إلى كتابة مقال باسم مستعار في صحيفة «الزحف الأخضر» لسان حال اللجان الثورية، قرأ في التلفزيون عنوانه «دعوة ملحة لتشكيل حزب»، والهدف من ذلك ذو شعبتين، فعلى الشعبة الأولى، معروف أن الأحزاب في ليبيا في عهده مجرمة وفق قانون جائر أعلى عقوبة فيه الإعدام (الذي يحق فيه للقاضي استعمال مادة معينة من قانون العقوبات وتخفيضه إلى مؤبد) وأخف عقوبة في هذا القانون عشر سنوات، وهي عقوبة العلم مع عدم التبليغ، إضافة إلى أنه لم تصدر قوانين رسمية تحدد الإجراءات العملية لتشكيل هذا الحزب.. وعلى الشعبة الثانية، يعرف معمر القذافي عدم تجذر فكرة الأحزاب تاريخياً في ليبيا وأن هناك نفوراً عاماً منها يرى فيها مدعاة لإحداث الانقسام في المجتمع، وبعد حوالي أسبوع كتب باسم مستعار أيضاً، مقالًا آخر في نفس الصحيفة متصلا بالأول بعنوان «الحمد لله لم يسجل أحد»، أي أنه قرر أن موضوع تحويل اللجان الثورية إلى حزب قد دفن مرة وإلى الأبد.

في هذا الملتقى نفسه تجلى الخلاف بين معمر القذافي وجلود في تأثيره، ولو جزئياً، على تجانس اللجان الثورية بحيث يبدو أن آراء جلود ومواقفه أصبحت تنال بعض الاستحسان داخل هذه اللجان، وقد تجلى ذلك في الهتاف «التصالحي» في ختام الملتقى الذي نصه «يا قذافي يا جلود، عن المبادئ لن نحيد»، ويبدو أن قادة الاتحاد السوفيتي حينها اقترحوا على معمر القذافي تشكيل قيادة جماعية لقيادة البلد، وقد ظهر هذا في صيغة البرقية السوفيتية بمناسبة عيد ثورة الفاتح من سبتمبر تلك السنة الموجهة «إلى قائدي البلد»، الأمر الذي يعني أن وزن جلود الدولي أصبح أكثر ثقلًا باعتباره شريكاً لمعمر القذافي في القيادة وليس تابعاً مؤتمراً.

بعد هذا الملتقى بحوالي أربع سنوات (سنة 1990) عزل معمر القذافي جلود نهائياً، وفي هذا رواية تقول إن جلود رفع لمعمر القذافي مذكرة تتضمن اقتراح إجراءات إصلاحية للخروج من أزمات النظام، ويقال إنه ختمها بالتهديد بأنه إذا لم يتم العمل بهذه التوصيات فإنه سينسحب من الميدان ويعتكف في بيته، وهنا تنقسم الرواية إلى سبيلين.. سبيل يقول إن معمر القذافي تجاهل المذكرة ولم يرد على جلود فاعتكف هذا الأخير في بيته، وسبيل آخر يقول إن معمر القذافي قال لجلود صراحة بعد إطلاعه على المذكرة «اقعد في بيتك»، ومنذ ذلك الحين لم يعد جلود إلى العمل.

كانت تحليلاتنا أنا وبعض الأصدقاء، أنه في حين أن معمر القذافي يعبر عن الجانب «المَرضي» المتورم للنظام الذي يصر على أنه أفضل نظام وصلت إليه البشرية وأنه كفيل بحل أزمات الإنسانية كافة، وأنه سيخرجها من الظلمات إلى النور وأنه ستتبناه دول العالم تدريجياً، كان جلود يعبر عن أزمات النظام، ولقد حضرت شخصياً العام 1989 مؤتمراً فكرياً وأدبياً على مستوى عربي انعقد في الفندق الكبير بطرابلس، حضره جلود وألقى فيه خطاباً، قال في ذلك الخطاب إن النظام يمر بأزمة وأننا مرتبكون لا نعرف ماذا نفعل وأن تصالحاتنا مع ياسر عرفات وبعض الدول العربية والغربية كانت اضطراراً منا ولم تكن برغبتنا، وأذكر أنه بعد أن انتهى من كلمته سأله مدير الجلسة اللبناني كريم مروة، قائلاً: هذا لا يعبر عن وجهة نظر القيادة الليبية، فأجابه جلود ضاحكاً: لا. يعبر.

يقول المسعودي (ت. 346 هـ) المؤرخ العربي القديم «الواجب ألا يوضع [=يُهمل] إحسان محسن، عدواً كان أو صديقاً»، وانطلاقاً من هذه القاعدة ينبغي أن نتعامل مع تاريخنا الفعلي تعاملاً شجاعاً يتحلى بالموضوعية، التي تتضمن في بعدها الأخلاقي العدالة والإنصاف.