Atwasat

خطوات التعديل الدستوري في ليبيا.. كيف جرت العام 1962و1963؟ (3 -3)

سالم الكبتي الأربعاء 16 نوفمبر 2022, 11:43 صباحا
سالم الكبتي

(..أعلن للشعب الليبي الكريم انتهاء العمل بشكل الحكم الاتحادي والبدء رسميا في نظام الوحدة الشاملة الكاملة تطبيقا للتعديل الدستوري الذي وافقت عليه المجالس النيابية والتشريعية بالإجماع)
الملك إدريس السنوسي في خطاب إعلان الوحدة. طرابلس 26 إبريل 1963

سارت خطوات التعديل ومشت واقعيا خطوة خطوة، فبدأت بعد موافقة مجلس الأمة بصدور القانون القاضي بتعديل بعض أحكام الدستور يوم السابع من ديسمبر 1962، كما سبقت الإشارة واشتمل على ثلاث مواد، كان مختصرا وواضحا جدا للجميع، في مفتتح المواد أشار الملك الذي تصدر القوانين والمراسيم باسمه.. إلى أن مجلس الشيوخ ومجلس النواب قررا القانون، وقد صدق عليه وأصدره دستوريا.

المادة الأولى استهدفت تعديل المواد 36 و172 و173 و179 و182 من الدستور الصادر في أكتوبر1951، وحددت هذه المواد جملة ما يتولاه الاتحاد الليبي، من سلطات تختص بالتمثيل الدبلوماسي، والقنصلي، وشؤون الحرب، وشؤون الجنسية، وإصدار جوازات السفر، وتسليم المجرمين، والأحكام العرفية، وإعداد قوات الجيش، وتحديد السلطات في مناطق المعسكرات، والخطوط الجوية والجمارك، ورسوم الإنتاج، ومالية الاتحاد وإحصاء السكان والمواني والمنارات والسفن، والنظام القضائي، والملكيات الأدبية والمخترعات، والاجتماعات العامة والجمعيات، والمحافظة على الصحة العامة وغيرها، وهي في الغالب لا تختلف عن اختصاصات الاتحاد المذكورة في نص الدستور أصلا.

غير أن المادة 182 قضت بتشكيل مجلس إداري في كل ولاية يرأسه الوالي، ويكون مسؤولا أمام المجلس التشريعي في الولاية، بينما أكدت المادة 184 أن يحدد القانون الأساسي في كل ولاية اختصاصات المجلس الإداري والمجلس التشريعي، وألغت المادة الثانية المواد الواردة في الدستور وهي 38 و180 و181 و185 وأكدت المادة الثالثة والأخيرة أن يتولى الوزراء كل فيما يخصه تنفيذ هذا القانون، بمعنى الاشتراك في المسؤولية.

في هذا القانون بات يلاحظ أنه كان هناك تدرج ما بين التعديل والإلغاء، فيما شرحت المذكرة الإيضاحية له الصادرة من مجلس الوزراء هذين المسارين، وخلصت في النهاية لبيان الأسباب الموجبة للتعديل والإلغاء، وعززت التوكيد على أن التشريع الذي صدر وعرض على مجلس الأمة استوجبته ظروف لامعدى منها لتبسط الأمور واستقامة الأحوال، ثم ألحق الملك ما سبق بقانون آخر يحمل الرقم 32 لسنة 1962 صدر في العاشر من ديسمبر 1962 بمدينة البيضاء، اشتمل أيضًا بمنتهى الاختصار على ثلاث مواد: نصت الأولى على استبدال عبارات ناظر ونظارة والمجلس التنفيذي والولاية بالاستعاضة عنها على التوالي، بعبارات وزير ووزارة ومجلس الوزراء، والحكومة الاتحادية وكل الاصطلاحات الأخرى، التي تشير إلى الجهات الولائية في هذه التشريعات، تعني الجهات التي تقابلها في الاتحاد، فيما راعت المادة الثانية ما ورد في الأولى على أن تظل التشريعات المشار إليها في المادة سارية ومعمولا بها إلى أن تلغى أو تعدل أو تستبدل بها تشريعات أخرى.

القانونان صدرا أحدهما في مسه والثاني في البيضاء وبينهما فارق ثلاثة أيام فقط، ومن هنا بدأت خطوات التدريج بالتنفيذ الفعلي في الولايات، إذ تم في كل منها تكوين تلك المجالس الإدارية التي حلت محل المجالس التنفيذية، وصار كل عضو بالمجلس الإداري يختص بالشؤون المسندة إليه.. هكذا: عضو المجلس الإداري للصحة، عضو المجلس الإداري للزراعة والغابات، عضو المجلس الإداري للعدل والأوقاف، عضو المجلس الإداري للمالية والتجارة.. وغير ذلك من شؤون ومسؤوليات.. صحيح أن هذه التعديلات قوبلت من بعض الأطراف المتنفذة بمعارضة متكتمة حاولت التصدي للحيلولة دون استمرارها، لكن في الإجمال ساد شعور بالارتياح لدى الكثير من أفراد الشعب الليبي.

انهمرت برقيات التأييد لهذه الخطوات والتحولات الدستورية الجديدة على مجلس الأمة ومجلس الوزراء، فيما علقت أغلب الصحف المحلية سواء كانت حكومية أو خاصة في تلك الصباحات، أن هذه التعديلات جاءت نتيجة (لوحي كان منبعه ضمير الشعب).

ظلت هذه الخطوات تسير الهوينى بشكلها المذكور طوال الشهرين الأوليين من العام الجديد 1963، لم يتحقق شيء جديد، لاحقت الحكومة شائعات باحتمال تغييرها وحدث زالزال المرج في الحادي والعشرين من فبراير. انشغلت أغلب مرافق الدولة بمعالجته ومتابعته، في التاسع عشر من مارس استقال السيد محمد بن عثمان الصيد وكلف بدلا منه د. محيي الدين فكيني ليرأس سادس حكومة في العهد الملكي، درس في السربون ونال منها دكتوراه الدولة في القانون، استدعي من عمله مندوبا لليبيا في الأمم المتحدة وكان عليه أن يستكمل ما بدأه سلفه الرئيس الخامس، عام 1954 كان ناظرا للعدل ورئيسا للمجلس التنفيذي لاحقا بولاية طرابلس، وعاصر الأزمة الدستورية الشهيرة التي رافقت المرسوم الملكي بحل المجلس التشريعي في الولاية، استقبل الناس التغيير الجديد بالرضا والحماس وشعروا بأن د. فكيني فيه روح الشباب وسيحقق الكثير من الوعود والإنجازات.

وهنا مع الربيع القادم، في أواخر مارس ومطلع إبريل، استلم مهامه وشرع على الفور في مواصلة الوصول بالتعديلات إلى نهايتها المتوقعة، كان الملك تلك الأيام في طرابلس. وظل يتابع هذه المواصلة بين الحكومة والقصر، استمرت نقاشات عديدة بين د. فكيني، رئيس الحكومة، ود.علي الساحلي، رئيس الديوان الملكي، ومن ضمنها ما يتعلق بحقوق المرأة الليبية الدستورية لوضعها في الدستور، كلاهما خريجا قانون من باريس ولندن، كلاهما من الشباب الذين قاربوا سن الأربعين، لقد دام الحوار في هذه النقطة وقتا طويلا بينهما، رئيس الحكومة يرى أن للمرأة حق الانتخاب والإدلاء بصوتها، ورئيس الديوان يرى أن الوقت لذلك غير مناسب للظروف الاجتماعية السائدة في البلاد والتقاليد، وصل النقاش إلى مفترق طرق، قابلا الملك في شأن هذه الرؤية المختلفة وطلبا منه رأيه، دعاهما لغداء في بيته بسواني بن يادم.

أفاداه بوجهة نظرهما، وظلا ينتظران رده، دهشا جدا لرده غير المتوقع فهو من عائلة محافظة ويتصف بالتدين ومراعاة أصول الشريعة الوسطية، كان رده أن المرأة الليبية لها الحق في أن ترشح نفسها لتصبح عضوا بمجلس الأمة ونيل المناصب التي تليق بها في مرافق الدولة.. أنا أذكر ذلك جيدا في لقاء حضرته في بيت د. الساحلي ذات ليلة بحضور د. فكيني العام 1973، كان في زيارة لبنغازي وقد استعادا أمامي هذه الواقعة وذكرياتها.

المادة 102 من الدستور المعدل أجازت ممارسة هذا الحق للمرأة بصورة عامة، ثم مضت الخطى أسرع من ذي قبل، وعرض د. فكيني مشروع مرسوم آخر بالتعديل النهائي أمام مجلس النواب برئاسة مفتاح عريقيب في الخامس عشر من إبريل، ونال الموافقة الكاملة من الأعضاء، ثم في اليوم التالي وافق مجلس الشيوخ ويرأسه عبدالحميد العبار أيضا بالإجماع، أرسل المجلسان برقيتين إلى الملك مؤيدين ذلك تماما، ثم في اليوم العشرين من إبريل وافق المجلس التشريعي في برقة برئاسة إبراهيم الفرجاني، على التعديلات، وفي الحادي والعشرين وافق المجلس التشريعي لولاية فزان برئاسة عبدالكبير أبوبكر على المشروع، ثم كانت خاتمة الموافقات بالإجماع في الثاني والعشرين للمجلس التشريعي بطرابلس، كان رئيسه علي الديب، المجالس الثلاثة باركت للملك في برقياتها كل هذه الخطوات وأجمعت عليها مهنئة ومبتهجة.

تكاملت هذه الإجراءات في سهولة وسرعة، وصلت إلى الملك الذي أصدر قانونا يوم الخامس والعشرين من إبريل، نصت مادته الأولى على إلغاء النظام الاتحادي بالمملكة الليبية ويستعاض عنه بنظام الدولة الموحدة، وذكرت المواد الأخرى التعديلات والاستبدلات في المصطلحات، وإلغاء مجموعة من مواد الدستور السابق، وبناء على موافقة المجالس المذكورة أعلن الملك الوحدة الشاملة وإلغاء النظام الفدرالي في خطابه يوم الجمعة السادس والعشرين 1963، قرأه المذيع ناصر عبدالسميع وسمعه الناس في كل أنحاء ليبيا دون فرق، وأضحت البلاد تتكون من عشر محافظات هي: درنة، الجبل الأخضر، بنغازي، سبها، أوباري، مصراتة، الخمس، طرابلس، الجبل الغربي، الزاوية، وتزامن ذلك مع اتفاق تم في القاهرة بين مصر وسوريا والعراق بحضور الرؤساء جمال عبدالناصر وعبدالسلام عارف ولؤي الأتاسي.

الاتفاق يقضي بإقامة وحدة ثلاثية بينها أبرق الملك إدريس مهنئا الرؤساء، وفي بيان للحكومة الليبية، رحبت بالاتفاق، وأشارت إلى أنه يزيدنا في ليبيا ارتياحا لأنه تم في الوقت الذي وافق فيه مجلس الأمة على تنقيح الدستور وتحقيق الوحدة الشاملة.

خطوات وتقاطعات وتشابكات والتباسات كانت في الطريق الصحيح رغم كل شيء جرت منذ ستين عاما، لكنها ظلت في مجملها سليمة دستوريا وقانونيا منذ إقرار النظام الفدرالي في ليبيا، من قبل الجمعية الوطنية التأسيسية في ديسمبر 1950، وبالقدر نفسه فإن خطوات تعديلاته ثم إلغائه عامي 1962 و1963 دستورية لا طعن فيها من هذه النظرة ولم تخرج في سياقها عن نصوص الدستور الليبي الصادر في السابع من أكتوبر عام 1951.

الملك لم يخطئ دستوريا وكذا الحكومة والمجالس النيابية، كل هذه الأطراف لم تخالف الدستور بل سارت وفقا لنهجه ومواده، إنها أطياف التاريخ وتفاصيله.. فقط لا غير.. ولكن أخلاق الرجال تضيق!