Atwasat

«الفوتبول» بين القدم والقلم

سالم العوكلي الثلاثاء 15 نوفمبر 2022, 01:18 مساء
سالم العوكلي

توقفتُ مليا عند مقالة الصديق جمعة كليب «الكورة يا عمورة»، في العدد السابق من جريدة «بوابة الوسط»، وبقلمه الرشيق أحاط بإيقاع العالم الذي سيتغير مع بداية البطولة الشتائية لكرة القدم التي ستجري في قطر، وحرك لدي شجنا كثيرا عن هذا اللعبة عموما، وعن هذا الشغف الموسمي الذي يمنح غاويه هدنة تبعدهم عن كوابيس السياسة وقلق الحياة الرتيبة. يقول رئيس نادي برادفورد سيتي السابق ستافورد هيجينبوثام: كرة القدم هي الأوبرا التي يعزفها البشر جميعا.
تَروج شائعة كونَ المثقفين والكُتّاب مترفعين عن هذه اللعبة التي يعتبرها بعضهم نوعا من أفيون الشعوب، وفي محادثة مع الصديق جمعة كليب، بعد تعليقي على مقالته، كتب لي على الخاص: تحياتي عزيزي سالم، لم أكن أعلم أنك مثلي مغرم بالكرة. وبعثت له صورة قديمة من الثمانينيات أقف فيها مع فريق نادي القيقب لكرة القدم الذي كان يلعب في الدرجة الثانية، وأخبرته أننا كثيرا ما نلتقي أنا والصديق نجيب الحصادي، مُشجعَيّ ريال مدريد، لمتابعة الكلاسيكو أو المباريات النهائية لريال في بيت صديقنا القاص أحمد يوسف عقيلة، المشجع المخضرم، مثلك، لفريق ليفربول.
أقيمت محاضرة في بيت درنة الثقافي ــ عنوانها «لكرة القدم ثلاث ثقافات»، استضفنا فيها المعلق الرياضي اللبق محمد بالراس علي ــ قال ضمنها: «لا سبيل لتطوير الأداء الرياضي والارتقاء به إلا بتطوير الأداء الثقافي والارتقاء به هو الآخر، فقد يتحول الأداء الرياضي إلى كابوس ما لم يكن هناك عمل ثقافي يحتويه». وعلى مدى التاريخ لم يغب اهتمام الأدباء والكتاب بهذه اللعبة التي تدفع مئات الملايين إلى ما يشبه الجنون، ولعل أشهر الكتب التي صدرت كتاب الروائي الأرغواياني، إدواردو غاليانو: «كرة القدم بين الشمس والظل» ترجمة صالح علماني. يبدأ غاليانو كتابه البديع بإهداء يقول فيه «هذه الصفحات مهداة إلى أولئك الأطفال الذين التقيت بهم ذات مرة، قبل سنوات عديدة، فـي كاليّا دي الكوستا كانوا عائدين من لعب كرة القدم وهم يغنون: ربحنا أم خسرنا .. متعتنا كما هي ... خسرنا أم ربحنا». لكن نظرة الفنان للعبةٍ بدأ الجمال يتراجع فيها لصالح المال، لن تخلو من حسرات، وكلما دخلت الصناعة كرة القدم، تراجع فيها جمال للعب لصالح الفوز بأي طريقة. يُشبِّه غاليانو الهدف بالنشوة الجنسية، ويتحسر على قلة الأهداف بسبب تكتيكات دفاعية صارمة جعلت النتيجة (صفر لصفر) تطغى على كثير من المباريات. كما ألّف الكاتب سيلفيو ريكاردو سيلفا كتاب «علم كرة القدم البرازيلية: فنون المراوغة وأساسيات التدريب» والذي أصبح مرجعا مهما لكل مهتم باللعبة، إضافة إلى كتاب (جنون المستديرة) للكاتب خوان بيورو. وعندما رغب الكاتب الحاصل على جائزة نوبل للآداب العام 2019، النمساوي بيتر هاندكه، كتابة رواية عن الخوف توقف عند لحظة كثيفة وهي ركلة الجزاء في كرة القدم، ليكون عنوان الرواية «خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء». أو كما يكتب د. شاكر نوري في مقالته (الأدباء وكرة القدم..) في جريدة (العين الإخبارية) الرقمية: « كان الكاتب الفرنسي الشهير ألبير كامو، حارس مرمى في فريق كرة القدم أيام شبابه، ولم يتوقف عن ممارسة هذه الرياضة حتى بعد انتقاله إلى الأدب، قال عنها «كل ما تعلمته من الأخلاق والتزاماتها مدين به لكرة القدم». فيما يقول أنطوني بيرجيس: «إذا كان للعمل خمسة أيام، وللعبادة في اليوم السادس، فإن اليوم السابع هو لكرة القدم». السير ولت سكوت يقول: «الحياة نفسها عبارة عن لعبة كرة قدم». وفلاديمير نابوكوف يقول: «حارس المرمى هو النسر الوحيد أما الرجل الغامض فهو المدافع الأخير».. وأوسكار وايلد يقول: إذا كانت لعبة - الركبي - كرة اليد مخصصة للبرابرة، يلعبها شباب أنيق.. فإن كرة القدم لعبة للشباب الأنيق يلعبها البرابرة... والكاتب الإنجليزي نايك هورنباي، كتب سيرته الذاتية تحت عنوان «بطاقة صفراء، قصة حياة مشجع فريق آرسنال» مصورا الخيال الذي تطلقه كرة القدم».
أما أشهر الكُتاب العرب الذين اهتموا بكرة القدم، الروائي الحاصل أيضا على جائزة نوبل للآداب، نجيب محفوظ، الذي قال عن حبه لهذه اللعبة، لولا اهتمامه بالرواية لأصبح من لاعبيها البارزين. وحين بِيعَ، في الدوري المصري، أول لاعب فوتبول بمليون جنيه، قال توفيق الحكيم في آخر أيامه «انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم».
الشاعر محمود درويش لم يُخفِ شغفه بكرة القدم، وتغزل فيها مثلما تغزل في كثير من الجميلات، وفي دورة كأس العالم العام 1982 التي صاحبها اجتياح الجيش الصهيوني للبنان، كتب درويش وهو محاصر في بيته المقطوعة عنه الكهرباء: «ونحن أيضا يحق لنا أن نحب كرة القدم. ويحق لنا أن نرى المباراة، لم لا؟ لم لا نخرج قليلا من روتين الموت؟». وحين شغّل له رفاقه مولِّدا وشاهد إحدى المباريات، عبر عن هذه الغواية بقوله: «ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ إلى ذباب مزعج! وما هذا الجنون الذي يُعطِّل الخوف ساعة ونصف الساعة، ويسري في الجسد والنفس كما لا تسري حماسة الشعر والنبيذ واللقاء الأول مع امرأة مجهولة». ولعل شغفه بهذه اللعبة ونجومها الذين يلعبون بالكرة كما يلعب الشاعر باللغة، جعله يكتب نصا بديعا عن مارادونا: (لن يجدوا دما في عروقه بل وقود الصواريخ..)، يقول تحت هذا العنوان، وبعد أن عاد الفتى الشقي إلى وطنه: «ماذا فعلت بالساعة، ماذا صنعت بالمواعيد؟.. ماذا نفعل بعدما عاد مارادونا إلى أهله في الأرجنتين؟. مع منْ سنسهر، بعدما اعتدنا أن نعلّق طمأنينة القلب، وخوفه، على قدميه المعجزتين؟ وإلى منْ نأنس ونتحمّس بعدما أدمناه شهرا تحوّلنا خلاله من مشاهدين إلى عشّاق؟ ولمن سنرفع صراخ الحماسة والمتعة ودبابيس الدم، بعدما وجدنا فيه بطلنا المنشود، وأجج فينا عطش الحاجة إلى بطل.. بطل نصفق له، ندعو له بالنصر، نعلّق له تميمة، ونخاف عليه ـ وعلى أملنا فيه ـ من الانكسار؟ الفرد، الفرد ليس بدعة في التاريخ. يا مارادونا .. يا مارادونا، ماذا فعلت بالساعة؟ ماذا صنعت بالمواعيد؟.
منذ طفولته الفقيرة في كوخ من تنك، تعلّم المشي على الكرة. كان يلف كرة الخيطان حول علب الصفيح ويلعب. ولعل الكرة هي التي علمته المشي. مشى من أجلها. مشى ليتبعها. مشى ليلعب بها. ومشى ليسيطر عليها.».
في إحدى زياراتي لتونس العاصمة، يوليو 2007، قابلتُ الصحفية صوفية الهمامي التي كانت تُجري تحقيقا صحفيا لمجلة (المرأة الآن) تحت ترويسة «كرة القدم ...لعبة الشعب وشيزوفرينيا المثقّف». عبرتُ عن شغفي مجيبا عن أسئلتها التي أعادتني إلى سيرتي مع هذه اللعبة: «عند اكتشافنا صغارا كرة الجورب أصبح العالم يستدير بين قدمي وفي ذهني الطري، كانت مطاردة ذاك الشيء المراوغ تبعث السرور في داخلي وتهبني لذة التحكم الأولى ونظرة التجاوز.. حين لعبت للمرة الأولى ضمن فريق يرتدي نفس الغلالة كنت أحس بأن هذا التناغم الجماعي يحتاج إلى عبقرية الفرد، وأن التشابه لا يلغي مَيزة المهارة التي بقدر ما تكون نشازا جميلا بقدر ما تسكب رشاقتها المتفردة في هارموني الفريق. وكان تحدي المستطيل المحدد الأبعاد والزوايا بالكرة العمياء أول تجربتي في ضرب القوالب، لعبت الكرة بشغف مازجا بين متعة أن تسجل هدفا ومرارة أن ترى حارس المرمى محبطا ذلك، الرجل الذي لا ينمو العشب تحت قدميه. كنت أيضا مأخوذا وإلى الآن بمتابعة كرة القدم العالمية وهي اللعبة الأكثر شعبية على مرّ التاريخ التي أصبحت مشحونة بالدراما عبر تسجيل انفعالات الجمهور واللاعبين بأكثر من زاوية وأكثر من كاميرا، وبالصراع الجسدي الذي يقوده فكر مخطط. كنت مأخوذا وما زلت بذلك العبقري مارادونا الذي يلعب مثلما نكتب الشعر. مارادونا قصيدة نثرية حديثة لا يمكن توقع القادم في لعبه تماما كما في القصيدة الحديثة لا يمكن توقع الجملة الشعرية التالية، بمعنى آخر، كرة القدم أثبتت أنها تحتاج إلى المجاز والاستعارة والخيال.».
يقول الكاتب الليفربولي، جمعة كليب، في سياق حديثه عن البطولة القادمة في قطر: «على غير العادة، هذه البطولة العالمية التي ستُعقد في قطر، ستكون شتائية الطابع والمزاج. تعودنا على مشاهدة مباريات كأس العالم في الصيف. لكننا في هذه الدورة المميزة والمختلفة سوف نجد أنفسنا نتابع المباريات في بيوتنا، على إيقاع المطر، وقطراته تطرق زجاج نوافذنا».
لكن، حقيقة، ما يرعبني في هذه الدورة هو الشتاء، حيث الموسم الخصب لانقطاع التيار الكهربائي المستمر بسبب تهالك الشبكة والدولة. لست محاصرا في بيتي مثل الشاعر محمود درويش نتيجة اجتياح الجيش الصهيوني، ولكني محاصر بالعتمة نتيجة اجتياح بلدي من قبل جيش محلي من اللصوص والفاسدين الذين لا يقلون ضراوة عن أي غزاة لا يرون في الوطن سوى غنيمة، ولا يرون في سكانه سوى كومبارس يحيط بأدوارهم (البطولية).
يذكر أن الليبي النبيل والعاشق لشعر درويش، عبدالقادر غوقة، هو من هرّب الشاعر محمود درويش من وسط الحصار في بيروت إلى دمشق في سيارته الدبلوماسية، حينما كان سفيرا في لبنان.