نلحظ، وتقريباً منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر كحدث مفصلي، صعودَ نجم اليمين الراديكالي في الغرب وأوروبا خاصة، مقتفياً فكرة تفوق العرق الأبيض التي كانت محرك التوسع الاستعماري في الحقب السابقة، وبهذا الصعود يعاد تدوير الفاشية هذه المرة عبر تقنيات الديمقراطية نفسها التي وصلت هناك إلى أوج نضجها كنتاج سياسي لعصر الحداثة كما يصفها مؤرخو الأفكار.
الوصف الرومانسي للحداثة، أو ما بعدها، ينطلق من فكرة أن الحداثة تجلٍّ معرفي لجوهر الأنوثة الكامنة في هذا العالم، ومن المفارق أن تكون أهم رموز اليمين الصاعد بقوة نساء بيضاوات من أوروبا، مارلين لوبان في فرنسا القادمة إلى أعلى هرم السلطة في وقت لن يكون بعيداً، وجورجيا ميلوني زعيمة اليمين المتطرف الإيطالي المهووسة بشخصية موسيليني، والتي تقول: «لدي علاقة هادئة مع الفاشية، فأنا أعدها فصلاً من تاريخنا الوطني».
هذه النسخة المنقحة أو (الهادئة) من الفاشية الأصلية التي كانت وراء حروب خسفت بأوروبا وبأجزاء أخرى في العالم، تأتي مدفوعة بخطاب كراهية عالٍ تجاه (الآخر)، وبخطابات شعبوية تعرف كيف تستثمر هذا الرصيد من الكراهية الكامنة لدى قطاع واسع من الناخبين.
هل من الممكن أن يشفع لأنوثة هذه الظاهرة الجديدة كون أحد أخطر رموزها، هتلر، المغرم بموسيقى فاغنر، الذي بدأ حياته رساماً كل طموحه أن يدرس في أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا، وأبوها الروحي المثقف وعاشق الأدب موسيليني، وأن تستأنف الآن سرديتها عبر الأنوثة نفسها التي كانت تعويذة النسويين تجاه العنف والحروب والعنصرية.
وانطلاقاً من تصنيف العالم في بيانات البيت الأبيض بمحور خير تمثله الديمقراطيات الغربية، ومحور شر تمثله النظم الموصوفة بغير الديمقراطية، تُوجه سهام الكراهية صوب هذا المحور الثاني، المكروه لأنه كاره في صميمه.
في كتاب «الكراهية، والسياسة، والقانون: منظورات نقدية في مكافحة الكراهية»* يقر مايكل ثورب في بحثه المعنون (كراهات ديمقراطية: صناعة «العدو المكروه» في الديمقراطية الليبرالية) بأن «الملمح الرئيس في الكراهية الديمقراطية بتعبيراتها المختلفة هو تحديد العنف في الآخر غير الديمقراطي، الآخر بوصفه العنف بمعناه المتأصل، سواء مارسه أو لم يمارسه... حين تكره الديمقراطيات، فإنها تكره الكاره». أي بمعنى، أن الآخر الواجبة كراهيته هو من يجعل العالم عنيفاً، وهو من ينشر الخوف أينما حل.
وتعتمد حملات الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا على نشر الفزع بين السكان الأصليين لهذه الأمم حيال تلوث المجتمع بالمهاجرين، لذلك فإحدى سمات الفاشية الأصلية تعتمد على الخوف، أو بث الخوف في المشاعر لكسب معركة التعاطف، يداعبها هاجس التفوق العرقي، ويقلقها هذا النزوح الأسطوري للجنوب تجاه الشمال حاجاً إلى القيم الديمقراطية التي تتغنى بها الليبرالية كفردوس على الأرض، والديمقراطية نفسها التي تغري المقموعين بالرحيل صوب جنتها، هي من تفرز الآن قوى اليمين الكارهة لتبني أسوارها كمحميات للعرق النقي.
والخوف، كما يقول روبرت ميستر، متناغماً مع ليبرالية الخوف لدى جودث شاكلار: «هو ما نكره؛ والخوف هو ما نخاف منه. وهكذا فإن الكراهية والخوف هما الاستثناءان اللذان تتأسس عليهما السيادة الليبرالية - المشاعر التي تنتابنا حين تتعرض هذه السيادة نفسها للخطر. وفي هذه اللحظات الاستثنائية هناك دائما شيء نكرهه أكثر من الكراهية نفسها ونخاف منه أكثر من الخوف نفسه - إننا نكره ونخاف العدو، الذي أصبحنا نراه ينشر الكراهية والخوف».
الكتاب المذكور*، يقدم تقصياً نقدياً لجوهر الكراهية، وإعادة قراءة للفرضيات التي تنطلق منها، والقيم، والأجندات المشتغلة في حقل المكافحة الحديثة للكراهية، منطلقا من أسئلة يبثها هذا التصاعد الدرامي لمسألة الكراهية التي بدأت تجد حيويتها خصوصاً في قلب الديمقراطيات التي جاءت في الأساس ضد هذا المفهوم.
أسئلة، تذهب لبناء منظور شامل للعلاقة الشائكة بين الديمقراطية الليبرالية والكراهية، من قبيل: «ما الافتراضات المعيارية، والجذور الآيديولوجية، والوعود، والقيود، وبوجه خاص، ما النقاط المعتمة في الحرب الحديثة ضد الكراهية؟ متى ولماذا شُرعن تجريم الكراهية؟ وما الذي نعنيه حين نصف فعلاً أو قولاً ما بأنه مكروه؟ وكيف يرتبط الاستخدام الحديث والعام لكلمة (كراهية) بالتاريخ الأطول والأوسع لمفهوم الكراهية؟».
لمراودة هذه الأسئلة المعقدة يقدم هذا الكتاب بحوثاً مكينة لمجموعة من المفكرين والباحثين في مجالات الفلسفة، وعلم الجريمة، والعلوم السياسية، والقانون، وعلم النفس، وعلم الاجتماع.
ومحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، تجيب ضمنياً عن السؤال الراهن والمقلق حيال ما يقف وراء صعود شعبية التيار اليميني وما يحققه الآن من انتصارات في انتخابات ديمقراطية نزيهة، بل إن ما تابعناه أخيراً في فوز المرشح اليميني المتطرف في البرازيل، غايير بولسونارو، العام 2018، وخسارته الانتخابات الأخيرة بفارق طفيف عن المرشح اليساري، يبعث نوعاً من القلق حيال هذه الظاهرة التي من المرجح أن تنتقل عدواها لأمم بعيدة عن مركزها الأوربي، وباعتبار البرازيل من أولى الدول في أميركيا اللاتينية التي انتقلت إليها الجمهورية عبر سيل من الدماء، فإنه يبدو أن مآل القيم الجمهورية التي أبهرت العالم في زمن ما، بدأت تتقلص عبر ضخ الخوف في تلك الشعارات التي تصدح بها مارين لوبان وتلقى رواجاً متزايداً مع كل استحقاق انتخابي، وعبر تأجيج هذه الفوبيات المطرد تجاه كل ما وضع في خانة (غير الديمقراطي). إسلاموفوبيا، صينوفوبيا، روسوفوبيا، بل إن الخطاب بدأ يتبلور في كراهية، ناعمة حتى الآن، حيال الألوان البشرية الأخرى، من قِبل اللون الأبيض، وهو الخطاب الذي فجره ترامب علناً وبوضوح ليرفع الحرج عن كل اليمين الشعبوي الكامن في العالم كي يصدح ببرامجه، ويرفع الحرج أيضاً عن الناخب الذي كان مرتبكاً حيال التناقض بين قيمه وبين رغباته وهو ينظر بشوق إلى صندوق الكراهية اليميني رغم وضعه ورقة الاقتراع في الصندوق المجاور، أو ما يسمى «اليمين الوسط».
وهذا التوجه الذي يبدو ناعماً في كرنفال الانتخابات البهيج، وفي خطب اليمينين المجمِّلة له بذرائع عدة، تحاول أن تبعد هذا التوجه عن تهمة العنصرية أو الكراهية التي مازالت تحرج التعريف الشائع للليبرالية كوصفة مبتكرة للتعايش السلمي، إلا أن ثمة حروباً قاسية، واجتياحات مدمرة، وتدخلات عديدة في أصقاع من الأرض، سبقت هذا الصعود السياسي، وبذريعة الدفاع عن الديمقراطية المتسامحة ضد القوى الكارهة لها، أو ما سمي محاور الشر، وبمجرد سقوط ما تسميه الليبرالية (إمبراطورية الشر) متمثلة في الاتحاد السوفياتي بدأ الدور على التهديد الإسلاموي كوريث بدائي لهذه الإمبراطورية، وكهدف للحرب الجديدة التي من شأنها أن تجعل العالم مستمراً في القلق ومستمراً في سباق التسلح، دون أن تتخلى هذه التوطئات للحرب على وصفها (المثنوي) بحرب معقدة بين طرف متحضر (حربه نظيفة) وطرف متخلف (حربه قذرة) .
في الثامن من أكتوبر 2001، وبعد شهر فقط من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، نشر المؤرخ العسكري الشهير جون كيغان مقالة في جريدة «التليغراف» اللندنية تحت عنوان «في حرب حضاراتنا هذه، سوف ينتصر الغرب».
وكما صموئيل هنتغتون في كتابه «صدام الحضارات» وصف كيغان العقل الإسلامي: بأنه «كينونة كلية لم تتغير منذ بدو محمد حتى اليوم تظهر نفسها بطريقة خادعة في الحرب. والمكون الحاسم في أي صراع غربي - إسلامي، هو الأسلوب المختلف في ممارسة الحرب. الغربيون يحاربون وجهاً لوجه، في معركة مواجهة، ويستمرون إلى أن يستسلم طرف أو آخر. في المقابل، يتجنب الشرقيون المعارك الضارية، ويعتبرونها لعبة، ويفضلون، الكمين، والمفاجأة، والغدر، والخديعة بوصفها أفضل سبيل لهزيمة العدو...».
ويعلق مايكل ثورب في الفصل العاشر من الكتاب، الممهد له بمقولة نيتشه: «يلزم أولاً أن يصبح الثعبان تنيناً، قبل أن يمسي المرء بطلاً في محاربته».
وتحت عنوان جانبي «هل الآخر شرير، أم أنه أحمق فحسب؟» على كلام كيغان بقوله: «توظّف هذه المثنوية الفجة، اللاتاريخية، في تبرير استجابة غربية، يصفها كيغان بأنها «أسلوب شرقي في الحرب»، تتمثّل في هجومات صاروخية من بعد، مظهرين بشكل أنيق ما أسميه منطق «الانتهاك المضاد» المعوجّ، أي تبرير القوة الوحشية الضارية بكون الآخر وحشياً، مصاحباً هنا بفكرة شبه عنصرية أو على الأقل استعمارية مؤداها أن القوة هي كل ما يفهمون: «الضربات السريعة، والقاسية، قد تكون سمة لهذه الحرب اختيرت قصداً، ولسبب وجيه. الهجوم القاسي الفوري قد يكون الاستجابة الأرجح أن تؤثر في الذهن الإسلامي. لحرب العدو يجب على المرء أن يقوم بما يقوم به العدو، ولأن هذه ضرورة استراتيجية في هذا الموقف، وليست خاصية في كينونة المرء، يمكن للديمقراطية، أو الحضارة الغربية على حد تعبير كيغان، أن تمارس حرباً قذرة دون أن تدنّس نفسها، في حين أن العدو الشرقي هو العنف متجسداً».
ويضيف ثورب في سياق نقده لهذه المثنوية، التي تغذي مشاعر الكراهية، واصفاً الخلل البنيوي الذي ترتكز عليه: «وضْعُ الديمقراطيات المستقرة، والمنظمة، والمنتجة قبالة الآخرين غير الغربيين، البدو، والفوضويين الذين يعيشون في (فضاء خالٍ) أسلوب استعماري كلاسيكي وعنصري. وهو يخلو من أي قيمة تاريخية أو تحليلية، لكنه ظل أداة تفسيرية قوية ومشرعنة للذات. وبالنسبة لمقاصدنا هنا، هذه صورة لنسخة مما أسميته الشكل - الإثنوي من الكراهية الديمقراطية».
* الكراهية، والسياسة، والقانون: منظورات نقدية في مكافحة الكراهية. تحرير: توماس برودهولم وبيغيت شيبلِرن يوهانسن، مطبوعات جامعة أكسفورد 2018. ترجمه إلى العربية: نجيب الحصادي. قيد الطبع.
تعليقات