Atwasat

رباعيات الصباح

سالم الكبتي الأربعاء 26 أكتوبر 2022, 11:44 صباحا
سالم الكبتي

(1)
يا حي الله
وتنساب الأغنية من الراديو، يرددها الثلاثي المرح، وفاء وسناء وصفاء، «يا حي الله، يا حي الله، طلوا علينا ضيوف الله، راكبين خيول الأصيلة»، إلى آخره، كان الراديو وكان الثلاثي، وكان المرح، وكان ثمة اهتمام دائم بالخطار والضيوف، ثمة فرح وابتهاج لا يتوقف بهم، ينزلون على الرحب والسعة، البيت كله يفرح بقدومهم حتى لو كان مفاجئاً ويسعد بحضورهم، يجدون الإيواء والأمن والمأكل والمشرب، كانت الإمكانات بسيطة، غير أن القلوب كانت كبيرة.

لم يكن ثمة ضيق أو تبرم من الضيوف، كان الجميع يبحث عنهم، قدومهم يعتبر بركة وخيراً، الحكايات والأسمار وتبادل المنافع وأخبار الناس تأتي أحياناً كثيرة مع الضيوف، سواء في النواجع البعيدة أو في مرابيع المدن، ضيوف وفرح وترحاب.
تغيرت الصورة، لم تعد مثلما كانت، المصالح تعددت، الصداقة أضحت من أجل المصلحة الشخصية، لم يعد ثمة ضيوف، ضيفك عندما يحل أحياناً تضيق الأسرة، يدعوه البعض خارج البيت في مطعم أو فندق، لم تعد الصورة القديمة، الفرحة بالضيف التي كانت تغمر الجميع، حتى الصغار يبتهجون ويشاركون في الاستقبال،

يا حي الله، يا حي الله، خسارة تغيرت الصورة، لم يعد هناك ضيوف، لم تعد هناك مرابيع وأسمار!

(2)
أيام المدرسة
... ويتذكر مدرسة الأمير والطريق إلى البيت وفصل السنة الخامسة الابتدائية، ومعلميه ورفاقه والأيام الطيبة، كان المنهج دسماً في كل المواد، وكانت هناك مادة اسمها (التربية الوطنية) عرف من خلالها الحقوق والواجبات والعلاقة بين المواطن والدولة ودور الإنسان في المجتمع وخدمة البيئة، وكان الوطن على الدوام يعيش في القلوب شامخاً، فيما يرفرف العلم الزاهي الألوان في روعة وإباء فوق مبنى المدرسة.

عندما يعود إلى بيته البعيد ويترك المدرسة خلفه، كان ثمة أهزوجة من الراديو بلحن مميز تنبعث من (الراديو)..
نارك ولاعة يا بلادي
بلاد الشجاعة يا بلادي
خيلك تراعة في الوادي

ويشعر بالانتماء والفخر، كان ذلك منذ زمن، ليس هناك الآن فخر، ثم فقط يحلم بالخيول والوديان والشموس البعيدة!

(3)
مدينتي كانت تعرف الله
وكانت مدينتي تعرف الله جيداً، تخشاه حق خشيته رغم بعض المعاصي والخطايا العابرة، كانت تبتهل إليه بعينين دامعتين حال الضيق وعند احتباس المطر، وكانت تصلي الاستسقاء، وعند الكسوف والخسوف، وكانت الألواح محفوظة بوقار في الخلاوي، كان الله كما تقول العجائز في قلوب المؤمنين، كانت مادة «هداية الناشئين»، مادة سهلة وجذابة.

كانت قناديل المولد تتوهج في الليالي الرائعة، كان الجار (يحن) على الجار، وكان البقال يتصدق بباقي الزيت الذي ملأه في زجاجة وأغلقها بقرن فلفل، يجمعه من المحبس أسفل البرميل ويتصدق به، فذلك ليس من حقه، كان الدين وسطياً، كانت الحياة بسيطة وممتعة رغم مظاهر التخلف، وكان الله في قلوب المؤمنين.

(ألا ترون أيها المؤمنون هذه الأيام عبر المغالاة والتعصب الزائد والتزيد أن اللباس يظل مسألة شخصية لكن القديم، الجرد والفراشية والجربي والبيشة قياساً بما يلاحظ هي أجمل أحياناً من الجلاليب السود، التي جعلت الأفق كله سواداً؟ كنا أكثر تقدماً ونهضة رغم كل شيء).

يقول ذلك صاحبي بكثير من التحسر، يتمنى عودة الزمن القديم، ولكن أنى له ذلك!

(4)
مجانين القرى
خرج من المستشفى النفساني بالمدينة، عاد إلى القرية، ابتهجت العائلة هناك بالعودة، نحرت ناقة وأقامت الولائم، حضر الأقارب والجيران وتجمعوا من كل مكان وابتهجوا هم أيضاً.

عقب أدوار الشاي، تداعت الحكايات، سألوه عن المستشفى الذي كان به والمدينة وما يدور فيها، أحوالها وناسها وطرقاتها المستقيمة والمعوجة والشوارع وأعمدة النور والسيارات، وكل شيء،
أجابهم: إن المستشفى يقع وسط حدائق وأعناب، وإنه يحوي قسمين، (ألف وباء).

قالوا له: حدثنا عنهما؟ كيف رأيتهما؟
قال لهم: الله لا يروعكم، قسمان صعبان للغاية.

أنت وين كنت؟ قالوا له في تلهف...
أجاب: في (جيم).
جيم، شنو دوته؟ ما هي حكايته بالضبط! قالوا بمزيد من التلهف...

قال في إجابة هادئة وواثقة: عادى جداً، إنه مثل قريتنا هذه أو تلك المدينة، خشوش وطلوع وتهدريز كيف قعدتنا هذي، كيف هدرزتنا هذي، عادي جداً قسم جيم!