Atwasat

التنظيمات السياسية في ليبيا 1952-1969 (10)

سالم الكبتي الأربعاء 19 أكتوبر 2022, 10:29 صباحا
سالم الكبتي

انحسر تنظيم «الإخوان المسلمين» هنا ولكن إلى حين، فيما ظلت أفكاره وتأثيراته ورؤاه باقية في نفوس وعقول مجموعة من مريديه وأتباعه. وبعض هؤلاء نتيجة لهذا الانحسار أو التوقف المؤجل تغيّر سلوكه كليةً وترك التنظيم وابتعد عنه لظروف خاصة أو بسبب مواصلة الدراسة في الخارج. البعض تبدل نمط حياته وهجر التدين والدعوة وبعضهم استهوته الحركات القومية القادمة عبر الحدود التي بدأت في التشكل في ليبيا فانضم إليها بحماس وترك خلفه أيامه القديمة.

وخلال هذه الفترة توجه أفراد من ذلك التنظيم إلى النشاط السياسي العلني من خلال الحراك في نقابات العمال المختلفة والترشح للانتخابات النيابية خاصة المجلس التشريعي وشكا من التزوير الذي طاله فيها. انفتح هؤلاء الأفراد على عالم جديد ودنيا أخرى أكثر صخبا وجدلا وشاركوا في ملتقيات خارجية تتصل بالعمال والشغيلة.

التقوا في بعض هذه اللقاءات خارج البلاد بجمال عبدالناصر والمهدي بن عبود والمهدي بن بركة.. وغيرهم كما عرفوا أنشطة الاتحادات الدولية وفروعها وكانت تجربة مفيدة لهم على الصعيد الشخصي في كل الأحوال. وكان هذا النشاط وتلك المشاركات بعيدة عن أجواء تنظيم الإخوان في ليبيا.

لم يظهر ذلك عبرها بأية صورة من الصور. صار التمثيل هنا يعود إلى الفرد ذاته أو النقابة أو الاتحاد الذي تشمله عضويته وقد رافق هذه التجربة (العمالية) صراع فكري وتجاذبات بين أطراف عديدة شملت مثقفين وكتابا كانوا يدافعون عن وجهة نظر العمال في وجه اتحادات أخرى. ولاحت عبر هذه الصراعات الحساسيات الفكرية أيضا في ما يتردد بهذا الشكل بين (اليمين) و(اليسار)!

إن ظهور الأحزاب والتنظيمات القومية عندنا فتح الباب واسعا أمام المزيد. وظلت انعكاسا ومحاكاة لما يجري في المنطقة المجاورة بأحداثها الساخنة وتقلباتها العنيفة. كان لا بد أن يصل المد ويعلو حتى يغطي ضفافنا أمام حالة الفراغ التي تسود البلاد ويشعر بها الكثيرون. كان لا بد من سد هذا الفراغ سياسيا من الخارج بعد أن خلت الساحة المحلية من أية تجربة أو مبادرة وطنية أو دعوة لبناء شخصية الوطن والمواطن بعيدا عن المؤثرات الخارجية.

لم يكن هناك في الداخل ما يشير إلى أن الدولة فكرت في تحصين الوطن ومواطنه مما هو قادم.

وكان هذا كله امتدادا طبيعيا وعاديا أيضا لما يحدث.. الخطب والصحف والإذاعات والأناشيد وغيرها كلها تكاد تشكل تنظيما وحده!

كان ثمة مجموعة من طلبة ليبيا من مختلف مناطقها قد التحقوا أثناء دراستهم في مصر وبيروت بهذه التنظيمات مثلما التحق العديد من الطلاب العرب من اليمن والكويت والجزيرة والسودان.. وغيرها بهذه التنظيمات التي أخذت تبرز بقوة ويشغلها حال الأمة الواهن الذي لن يتغير في رأيها إلا بقلب الأمور على عقبها وصولا إلى فلسطين والدولة الواحدة.

التقى هؤلاء الطلاب في دفعات متوالية ووحدتهم الرؤية والأفكار والقضايا والخطاب والمظاهرات والحماس وتعهدوا بأن يكونوا رسلا لهذه الدعوة القومية في بلدانهم بل وضمتهم معسكرات التدريب على السلاح في سورية ولبنان ومصر. وكانوا جميعا مهئين لهذه التغيرات.

ربما لاحقا ستنعكس التصدعات والشروخ على مسيرتهم نتيجة لتبدل المواقف والوقائع بداية من الزعماء وكل المسؤولين إلى أصغر مواطن يسمع المذياع على رصيف المقهى أو في بيته!

في منتصف الخمسينيات عاد الطلبة الذين تأثروا بأفكار حزب البعث أو بحركة القوميين العرب.. عادوا جاهزين ومدربين ومكودرين حزبيا وشرعوا في تأسيس وتنظيم أنفسهم في البلاد التي ضمت أيضا كما سلف القول العديد من العرب المعلمين والموظفين وأصحاب المهن وغيرهم وأصبح الكل ليبيين وعربا أعضاء في هذه التنظيمات الوليدة وترددت هنا عبارات الخلايا والأنصار والأشبال والحلقات وغير ذلك. وامتد بعضها (البعث مثالا) إلى تنظيم وضم مجموعة من الفتيات في بنغازي!

سيكون لهذا الذي حدث تأثير وامتداد أيضا في صفوف الطلاب والعمال والموظفين الذين انضموا أو تعاطفوا مع هذه الدعوة الجديدة التي تشهدها البلاد وانتشرت في مدنها ومجموعة من الطلبة الذين تشربوا فكر حركة القوميين العرب سيأخذون وجهتهم نحو الكلية العسكرية الملكية في بنغازي وكذا مجموعة من المنضمين إلى حزب البعث.

علا صوت الخطاب القومي بشدة ونجح في التأثير على الكثيرين وصار بعضهم على علاقة وطيدة بمكاتب السفارة المصرية ورجال مخابراتها واستقطبوا في مرحلة لاحقة بالتنظيم الطليعي الذي شكله عبدالناصر في مصر أولا العام 1963 ثم دفع به على المستوى العربي. وبدا الحراك (المخابراتي!) واضحا في كثير من المناسبات والأحداث من خلال المنشورات ومحاولة التفجيرات في بعض المواقع خاصة في يونيو 1967.

كان الزلزال عنيفا، ذلك الذي وقع في المنطقة بأسرها ومعه ظلت تتدافع الأحداث وتدفع بالجموع إلى المزيد من الحماس والعاطفة وفُقد هنا الانتماء للوطن بمعنى الكلمة رغم افتراض حسن النوايا لدى هؤلاء.

ومع هذا الزلزال وفورة الانقلابات العسكرية التي اشتهرت عبرها البيانات والبلاغات وسالت فيها دماء وفتحت خلالها سجون وصفيت فيها حسابات وتداخلت خطوط وتشابكت وتعقيدات اللعبة الدولية ومخططاتها القادمة التي تخدم على مهل وتحقق المستحيل.. مع هذا كله وغيره أضحت هذه المعالم والصور لدى الجموع خاصة الشباب.. أضحت قدوة ومثالا ينتهج وبالإمكان تحقيقه وإعادة تدويره والسير في سبيله رغم كل التضحيات.

إن هذا الذي حدث بعلم أو دون علم أتاح المزيد من التأثير وعلو الصوت وبات شيئا ملموسا وممنهجا على مدى فترة من الأعوام، فمن في تلك الفترة لم يسمع بثورات العراق والجزائر واليمن وثورات أفريقيا وآسيا والتغيرات الفكرية الخطيرة في العالم.. ولم يتمكن من أن يحدث ذلك في بلاده. لقد وصلت الرسالة من خلال هذه الأحداث واضحة.

هذا الخطاب، في اللحظة نفسها، ضرب تنظيم الإخوان المسلمين في مصر في مقتل. الذي كان يشعر بعض رجاله بأنهم محسوبون على الثورة وحركة الجيش المباركة التي قلبت له ظهر المجن فقبض على أعضائه العام 1954 ثم 1957 ثم لينهي الوجود الظاهر بالكامل العام 1965.

كانت المواجهة عنيفة وصادمة. سجون وإعدامات وتشريد بلا توقف. تقدم الخطاب القوي وتأخر الخطاب (الإسلامي) في المنطقة إلى حين وفُتح الباب أيضا واسعا أمام التنظيمات العسكرية في الجيوش العربية. ظل باب الإذاعة قريبا وسهل المنال مع خيوط الفجر.

وهنا بدأت الحساسيات والصراعات أيضا تلوح بوضوح بين الإسلاميين والقوميين نتيجة لهذا الخطاب وتداعياته وكان لا بد من أن ينعكس على الواقع المحلي. إن كل هذه التنظيمات دينية أو قومية لم تلتقِ في نقطة واحدة على الإطلاق من أجل إصلاح الداخل والنهوض به.

خطابها كان يمتليء بالمثالية والعاطفة. كان الخارج يسترعي الانتباه أكثر من الداخل ويخطف البصر وظل ذلك الداخل بعيدا عن هموم كل التنظيمات عندنا. إن أحياء الكيش والصابري وباب عكارة والجديد لم تكن في محل هذه التنظيمات أكثر من القصبة في الجزائر أو كريتر في عدن أو الأعظمية في بغداد أو الزمالك في القاهرة أو الصالحية في دمشق أو الحمراء في بيروت...... وهكذا.

ظل الداخل معزولا في الغالب في برامج دعوات هذه التنظيمات الشيء الذي أضعفها وقلل من توهجها وصار ضربها والقضاء عليها وسحب البساط من تحتها يسيرا ولا يحتاج إلى مجهود كبير.

لكن تنظيم الإخوان المسلمين حاول تنظيم نفسه من جديد العام 1963 ثم العام 1967 وشهدت البلاد أيضا الكثير من التحركات والتوجهات السياسية. كانت الإمكانات الأمنية بسيطة وعادية قياسا بما يتوافر اليوم لدى الأجهزة في العالم. كانت هناك تخليطات عبر هذه التوجهات والتحركات في تقييمها ومعرفة أغراضها وتصنيف أفرادها.

ملاحظة : سأتوقف هنا اعتبارا من هذه الحلقة وأترك باقي الحلقات المقبلة لإصدارها في كتاب بالعنوان نفسه قريبا.