Atwasat

التنظيمات السياسية في ليبيا 1952-1969 (9)

سالم الكبتي الأربعاء 12 أكتوبر 2022, 10:07 صباحا
سالم الكبتي

والذي يلفت النظر لدى الباحث في هذا الشأن الذي نحن إزاءه، أن بوادر تنظيم (الإخوان المسلمين) الذي ظل يستمر بهدوء في بنغازي تلك الأيام بعد مغادرة المصريين الثلاثة أصحاب الفكرة والبذرة الأولى..

لم يزج بنفسه في أي صراع سياسي أو اجتماعي أو عنف، بل كان في الواقع بعيداً عن ذلك يعمل، ويستمر في صمت ويضم الكثيرين من الشباب داخل المدينة وخارجها الذين ظلت تأسرهم الطريقة التي يتبعها التنظيم في التكوين والإعداد وتشكيل الأسر وتسميتها بأسماء الصحابة وقادة الفتح الإسلامي المعروفين، وقد نجح في تحقيق صورة مثالية عنه بهذه التصرفات الواضحة.

لم يخل التنظيم بالأمن ولم يواجه السلطة مباشرة التي كانت تراقب وتلاحظ وتحاول أيضاً أن تنصح هؤلاء الشباب بالابتعاد عن هذا النشاط لأنه مراقب وتحت أعينها.

وقد حدث بعد اغتيال إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية وإيداع قاتله، الشريف محيي الدين، السجن عقب الحادث مباشرة ثم الشروع في محاكمته في القضية التي عرضت أمام محكمة الجنايات في بنغازي تحت رقم 22 10- 54.

بدءاً من اليوم التاسع والعشرين من نوفمبر 1954 وحتى تنفيذ حكم الإعدام به في مقر السجن الرئيسي ببنغازي صباح اليوم السادس من فبراير 1955حدث أن سادت في المدينة ظروف أمنية خاصة وإعلان حالة الطوارئ وتشديد الرقابة والمتابعة لبعض الأشخاص ذوي الاشتباه في التعاون أو العلاقة بالشريف، ولوحظ تبعاً لهذه الظروف توزيع عديد المنشورات على نطاق واسع داخل المدينة.

وشملت العديد من أحيائها وشوارعها، فعلى سبيل المثال لاحقت السلطات تلك المنشورات واستطاعت أن تعثر عليها وكان مجموعها نحو (236) منشوراً منها (137) في سوق إحداش و(139) في شارع كويري والبركة نحو (50) منها، وقد اعتقل خمسة عشر شخصاً دون جدوى وقارنت السلطات الخطوط التي كتبت بها تلك المنشورات واستطاعت أن تشم رائحة جمعية عمر المختار المنحلة. ظلت الجمعية محل اتهام وشكوك على الدوام في أية حركة قد تحدث أو إخلال بالأمن يطرأ، ولم ينل تنظيم الإخوان أي تهمة ولم يتعرض أفراده للمساءلة أو التحقيق نتيجة لانتشار هذه المنشورات.

كانت السلطة في مأمن من جانبهم، وكانوا هم أيضاً في مأمن منها سوى بعض المتابعة من بعيد، وقد تردد أن هذه المنشورات طبعت في مدينة طرابلس وأحضرها نائب في مجلس النواب عن برقة من المعارضة.

وفي الفترة ذاتها بين حادث الاغتيال إلى إعدام الشريف محيِ الدين وصلت خطابات تهديد بالجملة إلى رئيس مجلس الوزراء وقائد عام قوة دفاع برقة وعدد من أفراد العائلة السنوسية المحسوبين على أسرة الشلحي، وفهم من هذه الخطابات المتوالية أن الشريف محي الدين قام بهذا العمل وهو اغتيال ناظر الخاصة الملكية، وليس وراءه أي تنظيم أو تجمع سياسي محلي أو خارجي، ولكنه قام به بصفته رئيساً (لمحكمة الشعب) أو (رئيساً للأحرار)!..

فمن كان وراء هذه القصة وتداعياتها في الأساس، التي خلقت شرخاً كبيراً في العائلة السنوسية بين الملك وأبناء عمومته، وكذا على مستوى البلاد ربما ظل.. أعني هذا الشرخ، من التأثيرات والأزمات التي لحقت بالدولة عموماً في فترات قادمة.

كما أرسلت خطابات تهديد أخرى إلى رئيس مجلس الوزراء ورئيسي مجلسي الشيوخ والنواب ومجموعة من أعضاء المجلسين تتعلق بتوقيع الاتفاقية الليبية - الأميركية تلك الأيام.

فهل كان وراء ذلك كله تنظيم مجهول لم يخرج إلى العلن أو أشخاص وأفراد لا ينتمون إلى تنظيم بعينه أو كانوا ينوون تأسيس تنظيم على المدى القريب.

إن حركة المنشورات السياسية التي ظلت تتزامن لاحقاً في كل حدث سياسي في ليبيا تشير إلى أن هناك مجموعات تتحرك وتنتظم دون أن تفصح عن نفسها، وقد يكون وراء ذلك أفراد بعيدون عن شكل التنظيم المعروف ولا يتجاوزون أصبع اليد الواحدة. كل ذلك يظل مرهوناً بالدراسات الجادة والبحوث والكشف عن المسكوت عنه في تفاصيل تاريخ ليبيا المعاصر بداية من حصره وتجميعه وتوثيقه بالروايات الصادقة وملاحظات شهود العيان والوثائق المهمة.

إنها فترة حساسة ما زالت مركونة في الأدراج المظلمة أو حبيسة الصدور، وينبغي أن تعرفها ليبيا وأجيالها. وهكذا في بنغازي وحدها ظلت جمعية عمر المختار، كما أشرت، هي الضحية لما يحدث على أرض الواقع رغم حلها نهائياً العام 1951 ومصادرة محتوياتها..

ظلت كذلك لأن مجموعة من أعضائها أو المتعاطفين معها استمروا في نشاطهم بطرق أخرى عبر الأعمال الاجتماعية والخيرية وحراك الأندية الرياضية وعضوية البرلمان، بل إن بعضهم حاول تأسيس تنظيم مغاير في مرحلة لاحقة (حزب الشعب العربي) مثالاً، وسنعرض له في حينه من خلال بروزه في أحداث يناير 1964 ويونيو 1967 وغيرهما، وقد ضم أفراداً من الوجوه القديمة في الجمعية، وتنظيم الإخوان والناصريين والمحسوبين على حزب البعث والنشاط النقابي!

والواقع تاريخياً كما هو معروف أن عبارة (الإخوان) كانت متداولة في مراحل زمانية سابقة وارتبطت ببعض الحركات الدينية والطرق الصوفية التي دعت لإحياء الإسلام وصحوته ومحاربة البدع والخرافات التي لحقت به، كما تشير في أدبياتها وتعاليمها، ورأينا أن هذه العبارة كانت ترافق حركة محمد بن عبدالوهاب النجدي في الجزيرة العربية، وحركة المهدي في السودان، ثم عبر الطريقة السنوسية في ليبيا.

غير أن هذا اللفظ الذي التصق بحركة الإخوان المسلمين يختلف عن نشاط إخوان هذه الحركات والطرق. ربما التسمية تأثرت بها لكنها تختلف عنها، فلم يكن في هذه الطرق تنظيم سري على سبيل المثال الذي ظل سمة في سنوات عديدة ملازماً لحركة الإخوان المسلمين.

في أعوام الخمسينيات بدأت البعثات التعليمية العربية تصل إلينا من مصر والأردن وفلسطين وغيرها. كانت هذه البعثات تخصص للتدريس في بنغازي بمعهد المعلمين ومدرسة التجارة والصناعة والمدرسة الثانوية وبعضها في الجامعة الليبية.

وكان أغلب أفراد هذه البعثات إضافة إلى سواهم ممن احتوتهم الكوادر الوظيفية في الدولة بالبنوك وشركات التأمين والمصالح المشتركة (النقطة الرابعة)..كانوا من أعضاء الأحزاب المعروفة في أقطارهم سواء في الإخوان المسلمين أو التحرير الإسلامي أو البعث العربي أو حركة القوميين العرب، وقد نشطوا كثيراً عقب استقرارهم في البلاد، وعزز وجودهم تواصل النشاط الإسلامي في بنغازي ودرنة، وكذا تأسيس تنظيمات تتعلق بالنشاط القومي الطاغي على المنطقة بعد نكبة فلسطين وحركة 23 يوليو في مصر.

وسنرى أن قيادات مهمة في بلادها (فلسطين مثالاً) صارت معروفة ومشهورة كانت لدينا في ليبيا (سعدون حمادي ومحمد أبوميزر وفاروق القدومي ويسار عسكري وغيرهم - البعث.. وسليم الزعنون.. الإخوان)، فيما اتهم جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي ومحمد كشلي بأنهم وراء نشر حركة القوميين العرب.

إن وجود هؤلاء جميعاً سواء بالتواجد في ليبيا أو حضورهم إليها بين حين وآخر حتى وإن لم تكن مشاركة بعضهم في هذا التأسيس لهذه التنظيمات كان عاملاً فعالاً لظهورها في ليبيا، إضافة إلى عودة الطلاب الليبيين من الجامعات العربية بعد تخرجهم والذين تشربت أفكارهم بحركة الأحزاب العربية بمختلف أنواعها.

كانت الأرض خصبة للبذار وتحتاج إلى من يفلحها، وكان الفراغ وكانت الفرصة مواتية للنجاح في واقع الأمر، وهنا بعد انتشار هذه التنظيمات حاول تنظيم الإخوان التغلغل في الجامعة وكلياتها وفي العمل النقابي واتحاداته وأنشطته واستطاع أن يضم بعض النساء اللواتي عرفن (بالأخوات) وكذا تعاطف معه بعض من ضباط الجيش.

ثم توقف التنظيم موقتاً لظروف رأها مناسبة العام 1957 وصار الباب هنا مفتوحاً أمام التنظيمات والتكوينات القومية على الأرض الليبية.