Atwasat

(بلاد القائد) رواية تحكي علاقة المثقف والسلطة

إبراهيم حميدان الأربعاء 05 أكتوبر 2022, 01:48 مساء
إبراهيم حميدان

في رواية «بلاد القائد» للروائي اليمني علي المقري، يروي لنا السارد، قصة زيارته إلى بلاد كانت تسمى «بلاد الثورة» ثم صار اسمها «عراسوبيا العظمى»، والاسم الأخير مُركب من ثلاثة مقاطع صوتية، كل مقطع يشير إلى دولة: العراق، وسورية، وليبيا، باعتبارها نماذج لدول عربية تحكمها ديكتاتوريات، لكن السارد حين وصل عراسوبيا كان اسمها قد صار: «بلاد القائد».

والقائد هنا هو معمر القذافي كما سنرى لاحقاً، والسارد روائي عربي اسمه «علي» مقيم في القاهرة، يتلقى دعوة لزيارة هذه البلاد للمشاركة في كتابة سيرة الحاكم، كما أخبره محمدين أحد المقربين من ذلك الحاكم، الذي زاره في شقته وأبلغه بالدعوة، وأن «القائد» معجب برواياته.

وأنه سوف ينال مكافأة عظيمة مقابل عمله. يوافق الروائي على الدعوة نظراً إلى حاجته الشديدة إلى المال كي يعالج به زوجته سماح التي تعاني من مرض السرطان، وأيضاً لكي «يركل الفقر» كما يقول مخاطباً نفسه، ويتفرغ لكتابة الروايات وهو في وضع مادي أفضل.

ويبلغه محمدين أن مهمته سوف تكون سرية حتى لا يشيع الخبر في الوسط الثقافي والإعلامي العربي الأمر الذي قد يثير الشكوك حول ما يكتبه القائد من مؤلفات، ويُفسَّر أن الروائي الزائر هو من بين الذين يكتبون تلك المؤلفات. ويستحسن السارد هذه الفكرة حتى لا يُفتضح أمره في التعامل مع الديكتاتورفي ذلك الوسط، فهو يحرص على صورته كاتباً مستقلاً معادياً للديكتاتوريات كما كان دائماً.

يعتمد الكاتب في تقسيم فصول روايته على فكرة الفصوص، كفصوص العقد، مثل تلك التي في كتاب عبدربه الأندلسي، وهي الفكرة التي اقترحها السارد على اللجنة المكلفة بكتابة سيرة القائد والتي أخذ يحضر اجتماعاتها عقب وصوله.

(المرجو)، وتنتهي بفص القذى، وخلال هذه الفصوص يروي لنا السارد قصته مع البلاد والقائد الذي صبغها بلون واحد وهو لونه، وفرض عليها صوتاً واحداً هو صوته، ونكتشف أن النفاق والرعب يسيطرعلى الجميع تحت حكم الديكتاتورغريب الأطوار: (جميعهم يخافون، يخافون من كل شيء، من الرقابة والمتابعة، من الناس، من البيوت، من الجدران التي يظنون أن لها آذاناً، يخافون من ظلهم ومني).

في«بلاد القائد» يجد السارد نفسه ممنوعاً من الخروج، أسير بيت الضيافة مقر إقامته، وذلك حفاظاً على سرية مهمته، حيث يقيم في مدخل البيت الحارس عبدالسلام وزوجته وابنته الشابة فاطمة، ورغم أنه تم منحه مبلغاً من المال، فإنه غير قادر التصرف فيه: «أعطوني في اليوم الأول الذي وصلت فيه ألف ورقة من العملة الوطنية فئة المئة، المزينة بصورة القائد، كمصروف جيب. فكّرت للوهلة الأولى بإرسال المبلغ أو جزء منه لسماح لتوفّر به العلاج، لكنني عرفت من فاطمة وأبيها أن الإرسال صعب، بل وغير ممكن. لم أكن أدري كيف سأصرفه، فيما أنا ممنوع من الخروج من بيت الضيافة، أو بالأصح على ماذا سأصرفه، فلا مجال هنا لتحقيق الرغبات سواء مع المال أو بدونه».

تحت وطأة الضجر والملل، يغادر السارد مقر إقامته ليتنزه في الشوارع المليئة بصور القائد المعلقة على الحيطان بأحجام مختلفة، فيتعرف عليه أحد الصحفيين، الذي ينشر عنه خبراً في إحدى الجرائد المحلية. في اليوم التالي يتلقى اتصالاً هاتفياً من الشيماء ابنة القائد، التي تخبره بأنها علمت بوجوده من تلك الجريدة المحلية، وأنها سترسل إليه سيارة لتلتقيه.

وعندما يقابلها تخبره بأنها هي من اقترحت دعوته على أبيها، لأنها معجبة برواياته، وتعرض عليه الزواج بشكل سري دون علم أبيها، وتبدو الفتاة شخصية مضطربة، تخبره أنها مثل بطلة إحدى رواياته تعاني كبتاً عاطفياً وجنسياً، وبأنها تكره والدها الذي حرمها من أن تستمتع بشبابها، وقتل زوجها لأنه أفشى سراً عائلياً.

إلى جانب تورطه في علاقة سرية مع ابنة القائد، يجد السارد نفسه يتورط في تمجيد الديكتاتور خلال مشاركته العمل مع تلك اللجنة المكلفة بكتابة سيرة القائد، بلغة تفيض بالتبجيل والتمجيد المبالغ فيه، وندرك من خلال السرد أن هذه الشخصية هي معمر القذافي قبيل انتفاضة فبراير 2011.

يقول وهو يصف القائد حين التقى به مع أعضاء اللجنة: (فقد بقي أكثر من ثلاث ساعات يسرد بعض جوانب سيرته في من* كان قد أسماها عراسوبيا العظمى، إلى جانب ما قدمه للبشرية من فكر يستهدى به لمعالجة أصعب المشاكل العالمية. ظل الحاضرون يهزون رؤوسهم بإعجاب واندهاش لما يقوله، ولكن، دون صوت أو حركة، مع أنه لا يراهم، إذ بقيت نظراته مصوبة إلى أعلى. هل كان لا يراهم؟)

يقع الروائي علي فريسة حالة من الصراع النفسي، وينتابه الشعور بالندم وهو يرى نفسه يسقط في ذلك المستنقع الذي انزلق إليه حين وافق على المجيء إلى ذلك البلد والمساهمة في كتابة سيرة الديكتاتور، لكن الأوان كان فات لاتخاذ قرار بالتراجع: (هل يمكن أن أصبح مقرباً لرجل سلطة على هذا النحو، وأنا الذي حرصت طوال عمري على أن أبقى بعيداً عن ما كنت أسميه الوباء. لقد صرت جزءاً من الوباء، بل الوباء نفسه.

ألم أقم بصياغة عبارة تعظيم وتقديس، غير مسبوقة، لرئيس بلد، يعده معظم العالم ديكتاتوراً حقيراً؟ لقد صرت أنا الحقير، وليس هو، أنا الروائي المثقف المناهض لأشكال التسلط كلها، ولكن، ماذا ينفع التحسر؟).

يبدو المكان الذي تتحرك فيه شخصيات الرواية محدوداً لا يتعدى تقريباً بيت الضيافة، ومقر لجنة كتابة سيرة القائد، وقصر القائد الذي أقيم على هيئة خيمة كبيرة، لكن اللحظة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية، هي لحظة درامية للغاية بالنسبة للقائد والبلاد، فهي تتناول مرحلة ما قبل ثورات الربيع العربي في العالم العربي بفترة قليلة، وتحديداً في «بلاد القائد»، ثم اندلاع الثورة ضد الديكتاتور، ودخول البلاد في حالة من الفوضى المدمرة التي تستمر بعد مقتل الديكتاتور.

نرى في المرحلة الأولى، الخوف والرعب الذي يفرضه الديكتاتورعلى من حوله، فيتبارون في تقديم فروض الولاء والطاعة والتمجيد الذي يكاد يصل إلى حد التأليه. ويتبين للسارد أن بعض الشخصيات تضمرموقفاً معادياً للقائد لكنها لا تكشف عنه إلا عندما تنفرد به، وتكون بعيدة عن الناس، وعن الكاميرات وآلات التسجيل، مثل أبو اليمن، رفيق دراسة الديكتاتور، وكذلك نازك الطباخة، وفاطمة ابنة الحارس، ونادية السكرتيرة، أما سحر ابنة الروائي الأحمد المقرب من القائد فتهرب إلى بنسلفانيا وتنشئ مدونة على الإنترنت بعنوان «الحالمة بموت الرئيس» تنشر عليها أحلامها بموت القائد.

لقد عبرت هذه الشخصيات عن حالة الغليان الذي كان يمور تحت السطح، وسينفجر لاحقاً مع الثورة حين يكشف الجميع عن موقفهم المعادي للقائد ويعبرون بقوة عن سخطهم وغضبهم الذي تراكم في صدورهم سنيناً طويلة.

ينخرط السارد في حضور اجتماعات لجنة كتابة السيرة، ويستلهم من حديثهم ما كانوا قد استلهموه في السابق من «القائد الملهم»، ويقترح عليهم أن تكون السيرة بعنوان «العقد الفرد في سيرة الملهم الأحد معمر الدين والدنيا وسائس الناس». لكن عمل اللجنة يتوقف بعد عدد قليل من الاجتماعات، بسبب اندلاع الثورة ضد النظام، استجابة لتداعيات ثورات الربيع العربي في بلدان مجاورة، ويرى السارد كيف يتغير موقف الناس بسرعة.

من حالة الخوف والولاء والتمجيد إلى إعلان الثورة والمطالبة بسقوط الديكتاتور، وإذا كان الروائي في الجزء الأول من الرواية قد صور لنا سطوة القبضة الكابوسية للسلطة، وكتمها للأنفاس، وهيمنة شخصية القائد المهووس بجنون العظمة، فإن الجزء الثاني ينفتح على الثورة العارمة التي تفضي إلى نهاية الديكتاتور جثة مغمورة بالبراز ومرمية في أنبوب للصرف الصحي، ولا تتوقف عند ذلك بل تتحول إلى احتراب داخلي بلانهاية.

ويبدو المشهد مأساوياً والسارد يستعد لمغادرة البلاد ويصور بلغة مكثفة مآلات الديكتاتورية والخراب الذي تفضي إليه حتى بعد رحيل الديكتاتور: (بدا لي من النقاشات الحادة أن القائد سيقرر مصير حياتهم المستقبلية، مثلما قرر مصير حياتهم الماضية، إذ سيشغلهم ميتاً كما شغلهم حياً، وكأنهم صاروا مرضى به، مصابون** به، ولا شفاء منه).

العلاقة بين الحاكم والمثقف محور أساسي في هذه الراوية التي ترسم وضعية الديكتاتور في كل مكان، حين يقود التسلط والفساد والأوهام المرضية الديكتاتور إلى نهاية بشعة، وتكون النهاية المخزية للمثقف الذي يربط نفسه به متخلياً عن ضميره ودوره في الوقوف إلى جانب الحرية والعدل، من أجل منافع شخصية، فيخسر كرامته وشرفه، ولا يتحصل على أي مكافأة مالية، حتى المبلغ الذي ناله عقب وصوله كمصروف جيب لم يكن بوسعه أن يستمتع به لأنه ظل حبيس بيت الضيافة.

كذلك فإن تمثال الذهب الذي كان على صورة القائد وأهدته له الشيماء حين تزوجها سرا، لم يستطع تذويبه في داخل البلاد، أثناء حكم القائد خوفاً من افتضاح أمره، ولم يستطع إخراجه بعد مقتله بعد استيلاء الثوار على المطار والبلاد برمتها، فتحول التمثال هو الآخر في نظره إلى جثة من قذى، بذات كيفية جثة القائد، وتموت زوجته التي عجز عن توفير الدواء لها، دون أن يشارك في جنازتها لأنه كان بعيداً عنها.

وأصبح غاية حلمه أن ينجو بحياته، فيخفي طبيعة مهمته السرية التي دعي من أجلها، حتى لا يتعرض للأذى من قبل الثوار الذين كان يقدم نفسه لمن يسأله منهم باعتباره باحثاً في التراث الثقافي لعراسوبيا التي تحولت إلى جحيم وقد انهار رأس السلطة الذي اختزل البلاد في شخصه، فانهار بمقتله كل شيء.

اعتمد السرد على التكثيف الشديد في اللغة، وفي رسم المشاهد المتتابعة التي بدت أقرب إلى المشاهد السينمائية وهي تلاحق الشخصيات في علاقتها بالديكتاتور في المرحلتين، ما قبل الثورة وبعدها، حين صار الكل ضد الكل، إذ لم تعرف البلاد الهدوء بعد مقتله: «بدت لهم الثورة وكأنها تعني التقارب مع الموت أكثر مما تعني الاقتراب من الحياة. كان على الرصاصة أن تخرج، من أسلحتهم، بل ومن أجسادهم كتنهدات أو تنفس».

* هكذا في الأصل، والصواب «ما».
** هكذا في الأصل، والصحيح «مصابين».