Atwasat

التنظيمات السياسية في ليبيا 1952-1969 (7)

سالم الكبتي الأربعاء 28 سبتمبر 2022, 10:48 صباحا
سالم الكبتي

وفي سياق المجادلة والأخذ والرد حول تسليم الإخوان الثلاثة إلى مصر التي ظلت تضغط باتجاه ذلك، بدءاً من الملك فاروق إلى رجال السراي، إلى الحكومة والبوليس السياسي، التقى دي كاندول، المعتمد البريطاني في برقة، الأمير إدريس عدة مرات وطلب منه الرضا بالتسليم وإنهاء مرحلة العلاقات التي ازدادت سوءاً مع مصر وإعادتها إلى حالتها الطبيعية السابقة.

ظل الأمير إدريس على موقفه من أن الشهامة والنجدة العربية تحتم حماية من يستجير بك ويلجأ إليك فلا تخذله أو تقطع به السبيل. وأكد أن هؤلاء الثلاثة ضيوف عليه في قصره وفي إمارته ولا يستطيع أحد أن يمسهم بسوء.

أشار هنا دي كاندول إلى أنه سيقبض عليهم إذا سنحت له فرصة خروجهم من قصر المنار ويسلمهم بدوره إلى السلطات المصرية التي كانت تتابع معه الموضوع من مبتدئه إلى خبره. غضب الأمير ورد محتداً بأن برقة كلها قصره، وهم في حمايته داخله وخارجه على شتى الصور. وعلى هذا لم تنجح محاولات التسليم ومحاولات الاغتيال ومرت الأزمة السياسية التي شهدتها الإمارة الناشئة بسلام كبير.

موقف تاريخي لاشك أنه يحسب لصالح الأمير إدريس وحكومته ولم يفرط في الإساءة إلى القوانين والتشريعات والمباديء الإنسانية المعروفة والقاضية بعدم جواز تسليم اللاجئين السياسيين. كان ذلك خطوة مبكرة في البلاد تحترم حقوق الإنسان وتحميها وربما فرط فيها في مراحل لاحقة الكثير من الزعماء الذين غلبوا المصالح على الحقوق والانتصار لها.

كانت البلاد في تلك الأعوام تسير في الطريق نحو استقلالها، فيما أخذت المنطقة عموماً تشهد حراكاً وانفجاراً ولهيباً ظل يستعر ولا ينطفيء. العام 1951 نشط القوميون في تصعيد أعمال العنف رداً على نكبة فلسطين.

اغتيل رياض الصلح رئيس وزراء لبنان في عمان، وبعده بأيام قليلة اغتيل مضيفه عبد الله بن الحسين الأول ملك الأردن، على أعتاب المسجد الأقصى، وارتفعت الهتافات والصرخات في الشوارع والساحات وعبر المظاهرات والمصادمات مع قوات الأمن في العواصم، وفتحت مخافر التوقيف لاعتقال الكثيرين من الشباب وبدأت المنطقة تشهد دخول العسكريين على خط السلطة.. حسني الزعيم ثم سامي الحناوي وبعدهما أديب الشيشكلي.

أيام جديدة وصراعات واغتيالات وإغلاق للصحف والأحزاب ووعود لا تنقطع بتحرير فلسطين.

ولم تكن اللعبة الدولية من قبل دوائر المخابرات البريطانية والأميركية والتنسيق مع بعض سلطات القرار العربية.. لم تكن بعيدة عما يحدث من كوارث، وقد أشارت العديد من الوثائق والمصادر التي أفرج عنها في فترات لاحقة إلى ذلك بصريح العبارة وبوضوح لا مجاملة فيه.

هذا مما سمح بالإفراج عنه من تلك المصادر والسماح بالاطلاع عليه ومازال الكثير من الخفايا والخبايا الذي قد يخرج إلى العلن بعد أجيال قادمة!

وهذه التيارات الفكرية والسياسية تنوعت بين اليمين واليسار والوسط والتطرف، وشكلت واقعاً جديداً في أرض الواقع الذي يعتريه التخلف والجهل، وبعد أعوام ستخسر هذه التيارات مواقعها وستتبدل الأمور مع مرور الزمن وتظل مجرد أطياف حلم باهت وبعيد. لقد خسرت أغلب هذه التيارات تلك المواقع لأنها لم تأتِ بجديد ولم تطور نفسها حتى وإن حققت بعض النجاحات.

لكن التقاطع والتخاصم والتباغض وروح المؤامرة وازدياد الشكوك سيظل هو الطاغي والمؤثر في الحياة السياسية العربية المعاصرة، وسينعكس على العلاقات بين الشعوب وسيزيد التخلف مع الكثير من الحزن والندم في غير محله.

ستخسر الأمة ويخسر الأفراد ويموت الحماس ولم يعد ثمة ما يجدي أو يقنع الجماهير من الخطب والتصريحات وأصوات الإذاعات ومعارك الثأر والأمجاد من أجل القائد الضرورة والحزب القائد والمبادئ الخالدة. كلها سيكنسها الليل الضرير على رأي البياتي!

وفي العام 1951 هناك في القدس بعد جروح النكبة بثلاثة أعوام والبكاء والانتقال إلى المخيمات ومغادرة الديار، يؤسس الشيخ تقي الدين النبهاني خريج الأزهر والقاضي بالمحكمة الشرعية «حزب التحرير الإسلامي»، ويختلف في دعوته ومبادئه عن حركة «الإخوان المسلمين» رغم أنه يعتبر خارجاً من عباءتها. لقد نشأت أغلب هذه التيارات والحركات قرب إعلان استقلالنا.

ووجدت هوى لدينا واستلبت العقول، إضافة إلى مشروع «الإخوان» وصلت دعوة «حزب التحرير» مبكراً بعد انطلاقها في القدس والأردن إلينا مباشرة في الأعوام الأولى من الخمسينيات الماضية بواسطة الشيخ حسن سلطان عبد اللطيف (أبو رمضان) الفلسطيني القادم للتدريس في مدرسة العويلية الزراعية، ثم في معهد المعلمين في بنغازي، ثم مدرسة البركة الإعدادية.

ونشط بوضوح في أرجاء المدينة وألقى عديد المحاضرات والخطب ونشر عديد المقالات في صحف بنغازي المحلية. كان رجلاً يرتدي بدلة إفرنجية وعليها جبة شيوخ الأزهر وعمامة مثل عمائم رجال الدين في الشام. وكان ذلك منظراً غير مألوف في البداية.

وقد نجح الشيخ حسن في استقطاب عديد الشباب في بنغازي إلى الدعوة التنظيمية الجديدة وبعضهم ترك تنظيم «الإخوان»، وانضم إليه بسرعة كبيرة وظل العمل مستمراً، وانتشر من بنغازي إلى مناطق أخرى في طرابلس والجبل الغربي وأجدابيا وعديد المناطق، وبعد سبتمبر 1969 اعتبر وجود الشيخ حسن عبد اللطيف غير مرغوب فيه، فتم ترحيله إلى خارج ليبيا، لكن دعوته استمرت بانضمام العديدين الذين أُلقي القبض عليهم لاحقاً بعد فترة العهد الملكي، وبعضهم نالته التصفية الجسدية من النظام داخل السجن وخارجه.

دفع الشباب ثمناً غالياً في سبيل دعوته والالتزام الكامل بها. وهنا نلاحظ أنه لم يكن ثمة تحسس وقع أو غيرة حدثت بناء على وجود التنظيم الإسلامي الجديد بعد تنظيم «الإخوان».. لم يقع أي تدافع بينهما أو تخاصم ملحوظ في نظري، بل اعتبرا وجود كل منهما مسانداً ومكملاً للآخر. فالرسالة واحدة وإن اختلفت التفاصيل والمشاهد.

كما بات يلاحظ أن سلطات العهد الملكي تسامحت كثيراً مع هذين التنظيمين ولم تمسهما في الغالب بسوء.

كان الأمن يراقب ويعد التقارير المعتادة وينصح ويحذر. وكان المنتمون الناشطون يخطبون في المساجد أيام الجمعة وفي الدروس بعد الصلاة ويتحركون في الجامعة بعد تغلغلهم فيها عبر مرحلة لاحقة من التأسيس والإعداد. لعل النظام الملكي كان يرى في ذلك شيئاً أهون وأخف ضرراً من التيارات الأخرى التي نالها الاعتقال والتحقيق والمحاكمة عدة مرات.

ومع ذلك كان النظام أيضاً يدرك أن هذه التنظيمات في الأصل لا تملك تراخيص أو موافقات بالعمل السياسي الحزبي، لكنه تسامح كثيراً ولم يضغط باتجاه التصعيد والتضييق. وظل الرصد الأمني موجوداً، فالخطوات معروفة والأشخاص أيضاً معروفون، وقد حدث الكثير من التشويش والأخطاء في تلك الأعوام المبكرة لدى الجهات الأمنية الليبية في تحديد وتصنيف هؤلاء.. فمرة يصنفون بأنهم إخوان، وفي اللحظة ذاتها يعتبر بعضهم في تقارير أخرى بعثيين أو يساريين.

وهذا دليل على أن تلك الجهات فوجئت بهذا النشاط الذي لم يسبق التعامل معه بالكيفية الأمنية المهنية.

واعتباره طارئاً على الواقع الليبي بعكس التعامل والرصد الذي تم في مراحل سابقة مع أنشطة ورجال جمعية «عمر المختار» في بنغازي وحزب «المؤتمر الوطني» في طرابلس وغيرهما من كيانات على سبيل المثال لكن مع مرور الوقت خبرت تلك الأجهزة الظروف ووردت إليها المعلومات من جهات مجاورة واكتسبت تجربة في التعامل مع هذه التنظيمات والحركات. كان لابد للدولة وأجهزتها أن تتابع وترصد وتراقب من بعيد أو من قريب في بعض الأحيان.

والواقع أيضاً أن بعض من عاد من المهجر في مصر، إقامة ودراسة، كانوا في الأساس منضمين لحركة «الإخوان المسلمين» وبعضهم سجن في قضايا تتعلق بذلك في القاهرة العام 1957.. كانوا يقيمون في الصحراء الغربية (مطروح وحمام مريوط) ولعلهم تأثروا بلقاءاتهم بالشيخ أحمد العسال أحد الأعضاء السابقين في الحركة. كان يأتي إلى هذه المناطق في شهر رمضان للوعظ والإرشاد ويؤم المصلين في صلاة العيد، وبعدها يغادر إلى القاهرة.

وآخرون أيضاً شملتهم الاعتقالات الكبيرة التي تمت صيف العام 1965 بالقبض على سيد قطب وآخرين في التنظيم الذي لاحقته السلطة وقبضت على أفراده وقدمتهم للمحكمة العسكرية، وتراوحت الأحكام خلالها بطريقة شديدة من الإعدام إلى السجن المؤبد والأشغال الشاقة.

والكثير منهم توفي داخل السجون أو خرج من بقي على قيد الحياة بعد تولي أنور السادات السلطة العام 1970 في مصر، وكان ثمة أحد الليبيين منهم توسطت السلطات الليبية في إعادته إلى ليبيا بجهود مكثفة من الرائد محمد نجم وزير الخارجية، والأستاذ منصور رشيد الكيخيا وكيل الوزارة وصار موظفاً بالجامعة الليبية في بنغازي.

وحين اغتال الشريف محيي الدين السنوسي، إبراهيم الشلحي ناظر الخاصة الملكية في أكتوبر 1954، ظهرت أقوال بأن القاتل من جماعة «الإخوان» وربما قام بذلك تأثراً بسلوك التنظيم السري لـ«الإخوان» في مصر، والواقع الصحيح لم يكن كذلك. أحاديث المقاهي والمرابيع شيء آخر يختلف تماماً عما هو صحيح بالفعل.