Atwasat

أيتها الجميلة وداعاً

جمعة بوكليب الأربعاء 28 سبتمبر 2022, 10:40 صباحا
جمعة بوكليب

كلما رأيتُ صورة مارشال الجو الإيطالي إيتالو بالبو، تذكرت سجيناً إيطالياً اسمه أنطونيو، ولم أعد أذكر لقبه. كان رفيقنا في سجن الجديدة، ثم في سجن الحصان الأسود بطرابلس. فالاثنان يتشابهان في مناحٍ جسمية كثيرة، وأكثرها وضوحاً قوة البدن. إذ يبدوان لي وكأنهما مصارعان. الفرق الواضح بينهما هو أن لحية رفيقنا في السجن أنطونيو كانت حمراء اللون.

وبالطبع، مثل أشياء أخرى كثيرة، نسيت السبب الذي دفع بالأجهزة الأمنية الليبية في العهد السابق إلى القبض على أنطونيو وإيداعه التوقيف في سجن الجديدة، حيث كنت ورفاقي موقوفين على ذمة قضية أمن ثورة، عرفت باسم «قضية الصحافيين». الأجهزة الأمنية الليبية، في العهد السابق، كانت في غالب الأحيان، تعتقل أجانب أوروبيين لأغراض سياسية.

وعلى سبيل المثال، إذا قامت دولة أوروبية باعتقال عناصر من اللجان الثورية لتورطهم في أعمال إجرامية ذات صلة بمعارضين ليبيين في تلك البلاد، تقوم الأجهزة الأمنية الليبية باعتقال من تجده متوافراً أمامها من مواطني تلك الدولة بغرض المقايضة للإفراج عن العناصر الليبية المعتقلة.

كان السجين الإيطالي أنطونيو، كثير الكلام والمرح، ويتحدث معنا بلغة إنجليزية، بلكنة إيطالية ثقيلة. وعلى ما أذكر، صدر ضده حكم بالسجن لمدة ثلاثة أعوام. وحين قررت السلطات الأمنية نقل السجناء السياسيين من سجن الجديدة المدني، إلى القسم العسكري في سجن الحصان الأسود، الذي بناه أسلافه من المستعمرين الفاشيين في طرابلس، في الثلاثينيات من القرن الماضي، كان أنطونيو من ضمن المنقولين.

ليس مهماً التوغل في تفاصيل حكاية أنطونيو ومقالبه وحكاياته التي لا تتوقف. لكن المهم أننا – أنا ورفاقي – عن طريقه، عرفنا الأغنية الإيطالية المشهورة المعروفة باسم (بيللا تشاو- Bella Ciao). فهو أول من قدمنا إليها، وغناها لنا، وتعلمنا كلماتها ولحنها منه، وصرنا نغنيها جماعياً في كثير من المناسبات. والأغنية تلك إيطالية تاريخية.

ولدت وانتشرت بين المقاتلين الإيطاليين المناوئين للحركة الفاشية والنازية.

وكان المقاتلون الإيطاليون يغنونها في طريقهم للمعارك لشحذ الهمم. وهي أغنية بسيطة الكلمات، واضحة الهدف، جميلة اللحن. تحكي حكاية مقاتل يودِّع حبيبته، مغادراً للحرب في الجبال ضد الفاشيين والنازيين.

ولأن حركة المقاومة الإيطالية كانت تضم فصائل متعددة، وطنية ويسارية، يجمعها العداء للفاشية والنازية، إلا أن الصبغة اليسارية، في ما يبدو، غلبت على تلك الحركة، واقترنت بالأغنية، لأن الحضور اليساري في المقاومة، ممثلا في الشيوعيين الإيطاليين، كان أكبر من غيره. وصارت جزءاً من أدب المقاومة الوطني واليساري الإيطالي.

وبعد التخلص من الفاشية، عاشت الأغنية وانتشرت بين قطاعات واسعة من الشعب الإيطالي، وأضحت مثل نشيد وطني تغنى في المناسبات الوطنية، وتدرس في المدارس، بل وانتقلت إلى بلدان كثيرة، وترجمت إلى لغات عدة. وهي اليوم تمثل هدفاً لليمين المتطرف الإيطالي، الذي يريد استئصالها، بمنع ترديد تلك الأغنية في المدارس وفي غيرها من المناسبات الوطنية على اعتبار أنها يسارية القلب والهوى، وحسب ما قاله أحد زعماء اليمين المتطرف، تعمل على تجنيد الكوادر للتيار المناويء لليمين.

وقرأت أخيراً أن الزعيم اليميني الشعبوي المسمى ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة العنصري، قد أرسل ببرقية تهنئة إلى مطربة إيطالية مشهورة لدى سماعه أنها رفضت غناء الأغنية في إحدى المناسبات بحجة أنها «أغنية سياسية جداً».

اليمين الإيطالي المتطرف بجذوره الفاشية يستعد، هذه الأيام، عقب فوزه في الانتخابات النيابية الأخيرة، لقيادة إيطاليا في واحدة من أكثر الحقب السياسية توتراً من خلال ائتلاف سياسي تحت قيادة السيدة جورجيا ميلوني، زعيمة حزب «إخوة إيطاليا»، وبمشاركة من السيد سيلفيو بيرلسكوني زعيم حزب «فورسا إيطاليا» وهو من يمين الوسط، والسيد ماتيو سالفيني زعيم حزب الرابطة المحسوب على اليمين المتطرف.

السيدة ميلوني نفت تورطها شخصياً في الحركة الفاشية في شبابها، لكنها لم تستطع نفي أن حزبها يضم فاشيين.

والحرب التي أعلنت أخيراً ضد أغنية (بيللا تشاو) هي في جوهرها محاولة لمحو صفحة مجيدة من تاريخ الشعب الإيطالي في مقاومة الفاشية، حيث تجلت فيها قدرته على توحيد قواه الوطنية، وتحرير بلاده، عبر تأسيس حركة مقاومة قادت النضال إلى النهاية، وتمكنت من دحر اليمين الفاشي والنازي. وما أعرفه من خلال تجارب التاريخ هو أن القصائد والأناشيد والأغاني الوطنية لا تولد بقرار سياسي ولا تنتهي بقرار سياسي. ومنع ترديدها في المدارس والمناسبات الوطنية، لن يزيد إلا في انتشارها وشعبيتها.