Atwasat

(عمر مسعود.. سيرة فنان)

إبراهيم حميدان الأربعاء 14 سبتمبر 2022, 10:42 صباحا
إبراهيم حميدان

في كتابه* الجديد يرصد عبد الله زاقوب تجربة الفنان عمر مسعود ابن مدينة هون المعروفة بتراثها الفني الشعبي الغني، حيث الألحان العذبة والأشعار الجميلة التي تتغنى بالحب والإنسان والطبيعة، وتمجد قيم السلام والتعاون والمحبة بين الناس، وتكتنز بالحكمة والتأمل في الحياة، والإنسان والزمن وتقلباته.

يتضمن الكتاب مقدمة بإمضاء الشاعر الليبي الصيد الرقيعي الذي يتطرق إلى التأثير المهم للفنان في الواقع، حيث يساهم بإبداعه في إحداث التغييرات الإيجابية الكبرى في المجتمع، وعلى هذا الأساس تهتم الأمم الحية والمجتمعات المتقدمة بمبدعيها وتحتفي بهم، كما يقول الرقيعي الذي يضيف "إن هذا الكتاب يأتي في سياق توثيق مسيرة الفنان الكبير عمر مسعود الذي يعتبر الرائد والمكتشف والأستاذ الذي حمل في جسارة نادرة أعباء التجديد والتحديث في بيئة ضربت عليها الأغنية التراثية سياجا محكما".

يذكر الأستاذعبد الله زاقوب معدّ الكتاب (ونلاحظ أن كلمة إعداد غير موجودة على الغلاف رغم أن هذا النوع من الكتب ينتمي إلى صنف الإعداد وليس التأليف) في مدخل الكتاب أنّ فكرة توثيق السيرة الذاتية للفنان عمر مسعود تولدت في ذهنه أثناء انعقاد سلسلة الندوات واللقاءات الثقافية التي أقيمت في منتصف عام 2006 وبداية عام 2007 بمقر منتدى الفنان عمر مسعود.

الذي أُفتتح ضمن فعاليات الدورة الحادية عشرة لمهرجان الخريف بالمسرح الأهلي بمدينة هون. ويقول أنه سلم للفنان حزمة كبيرة من الأسئلة شملت مختلف المحطات في مسيرة حياته، أجاب عليها بعد فترة الفنان عمر بشفافية ومصداقية عالية، كما يذكر زاقوب.

الحاضنة الاجتماعية
الفنان عمر سالم من مواليد هون عام1936زمن الاحتلال الإيطالي لليبيا، حيث كان ينتمي إلى أسرة فقيرة كما هو حال غالبية الأسر الليبية في تلك المرحلة كما يقول في بداية سرده لسيرته الذاتية. ويتطرق إلى والده الذي كان يجيد أكثر من حرفة وصنعة، وكان أميًّا كما هو حال الأغلبية لكنه كان شيخ طريقة صوفية، يحفظ الكثير من القصائد والمدائح والأذكار، والسلاسل الصوفية. وكان مواظبًا على حضور مجالس المشائخ والعلماء والفقهاء، كما أنه كان فنانًا له صوت قوي جميل أثناء تأديته لهذه الأذكار.

إضافة إلى أنه كان يقول الشعر الشعبي بصيغته الشعبية، الزجل، والشعر الفكاهي المرح. كما يذكر الفنان مسعود أفرادًا آخرين في عائلته يقولون الشعر الشعبي: والدته، وشقيقته، وشقيقه، وعمه.

هذه البيئة العائلية التي يزهر فيها الشعر الشعبي والقصائد الصوفية نجد امتداداتها في البيئة الاجتماعية في مدينة هون التي ولد فيها الفنان وتغذى وجدانه بتراثها الموسيقي والشعري وتعلّم اللغة العربية من خلال حفظه القرآن الكريم في الكتاب.

هذه الأحداث والمواقف والصور وغيرها ساهمت في تشكيل مخيلته وملكته الفنية، وهيأته لأن يلتقط المشاهد المرئية والمسموعة ويستوعب الظواهر والصور لتخرج في حينها في صيغ أدبية وفنية، أشعارًا وألحانًا يؤديها الفنان بصوته. لايكتفي الفنان مسعود وهو يروي سيرته بالحديث عن نفسه وعائلته ومحيطه العائلي فقط، بل يروي سيرة مجتمعه الذي يعيش فيه في مدينة هون، ويتطرق إلى ذكريات مدينته ومجتمعه.

وتبدو هذه السيرة مثل ذكريات تتداعى إلى ذهن هذا الفنان فيكتبها بطريقة عفوية، ما يجعله أحيانا يقع في التكرار، وأحيانًا الاستغراق في تفاصيل غير ذات أهمية في بعض الأحيان، لكننا نراه في أحيان أخرى يشير إلى مسألة مهمة في مسيرته. على سبيل المثال، حين يتحدث عن بيئته الاجتماعية الحاضنة لموهبته، ومصدر ثقافته الفنية قائلا: "كل بيت كان يعتبر في حقيقة الأمر مسرحا قائما بذاته، وكل زقاق أو شارع فضاء للتعبير وساحة للفضفضة لكافة أبناء الشارع والزقاق".

ورغم أنه لا يوضح لنا ما المقصود بهذا، غير أننا ندرك ذلك من فقرات أخرى في السيرة. على سبيل المثال خلال تطرقه إلى الألعاب الشعبية التي كان يلعبها الأطفال في الشوارع في الأيام العادية وفي المناسبات الدينية مثل العاشوراء والمولد النبوي الشريف وخلال عيدي الفطر والأضحى.

وضمن هذا السياق يشيد الفنان مسعود بدعم وتشجيع الجمهور في مدينة هون قائلا "كان الجمهور يلفنا بود لا تشوبه أي أعراض أو شوائب وذلك يعبر عن مستوى رفيع من التحضر والمدنية والرقي والذوق الشفيف، ولم نستمع لنقد مستنكر أو ساخر أو قادح، بل إن الشكر والمدح والرضا هو البادي والظاهر على وجوه الأفراد والأسرة والصحب والجمهور".

بدايات التجربة
بعد أن يذكر بداية تجربته في التلحين، والتي كانت خلال العام الدراسي 1958حين راح يضع ألحانًا للأناشيد المدرسية بالمدرسة الابتدائية التي كان يعمل بها مدرس موسيقى، يعود الفنان مسعود ليحدثنا عن اللبنات والمؤثرات الأولى التي ساهمت في تشكيل وجدانه الفني. تلك المؤثرات التي تتمثل في الألحان والدندنات والتنغيمات التي كان يسمعها من والدته وجاراتها وهن ينغمن تلك المقطعات والمنغمات خلال عملية طحن الحبوب بواسطة الرحى.

مقطوعات مشحونة بمعاني الحنين والشجن والحكمة والدلالات الإنسانية العميقة، يستمع الطفل مسعود إلى ذلك وهو ما يزال في فراشه بين النوم واليقظة، لأن عملية طحن الحبوب تبدأ منذ الفجر فيستيقظ من نومه على صوت أمه وجاراتها وهن يرددن الأشعار منغمة خلال عملية الطحن. كما يشير أيضًا إلى أغاني الفلاحين في المزارع والحقول خلال عملية استخراج المياه التي تسمى في هون "الجبادة" وأغاني الفتيات أثناء "دق النوى"، وأغاني الأناشيد المدرسية في المدرسة.

علاوة على أغاني الأعراس التي يتألق خلالها المطربون الشعبيون وهم يتغنون بالأغاني التي يحفظونها عن ظهر قلب من التراث الشعبي المحلي. ولايفوت الفنان عمر مسعود أن يسجل ملاحظته المهمة هنا وهي أن "كان أولئك المغنين والفنانين حفظة للتراث ومرددين لألحان الأقدمين الذين سبقوهم، ولم يكونوا مؤلفين أو ملحنين، عدا القلة منهم".

وعلى الرغم من أهمية هذا الدور الذي يقوم به هؤلاء المغنون الشعبيون في المحافظة على التراث الفني، إلا أن الفنان مسعود لا يجد في نفسه ميلا تجاه ذلك، فقد كان ينتمي إلى القلة من الفنانين الذين كانوا يؤلفون ويلحنون ويبدعون الجديد في مجال الأغنية الحديثة التي تستلهم التراث الشعبي، لكنها لاتكتفي بالترديد وإعادة القديم كما كان يفعل الفنانون الشعبيون.

ومن المؤثرات التي ساهمت في تكوينه الفني، وجعلته أقرب إلى الأغنية الحديثة توطد علاقته بالأغاني العربية، التي تبدأ منذ الطفولة في هون عبر الراديو، رغم ندرة وجود الراديو في تلك الفترة، كما يقول الفنان مسعود. ثم سفره إلى مدينة طرابلس خلال سنة 1953-1952، وتردده على دور السينما التي كانت تعرض أفلاما مصرية آنذاك تتضمن أغاني وموسيقا لمطربين مشهورين.

ويذكر قصة شرائه لآلة العود من أحد المحلات في طرابلس، وهو العود الذي حمله معه إلى هون، واغتنم فرصة زيارة الفنان المطرب علي قدورة قادما من بنغازي، وفي فترة لاحقة، الفنان هاشم الهوني. حيث قام كل منهما في فترات مختلفة، وكل على حدة، بتعليمه العزف على العود. يسرد ذلك كله بكثير من التفاصيل التي تعكس الظروف الصعبة التي كانت تنمو فيها تجربته الفنية وتطورها.

ويوضح دور المسرح المدرسي في تنشيط الحركة الفنية والموسيقية في مدينة هون، حيث بدأت تقام السهرات الغنائية والمسرحيات على خشبة المسرح. وتضمن ذلك النشاط المسرحيات ذات الفصل الواحد، والاسكتش والمونولوج واللوحات الغنائية والأغاني الشعبية، والأوبريتات. وفي عام 1963، يقول عمر مسعود، أنه قد تم الإعلان عن مسابقة النشاط المتكامل، وكان لهذه المسابقة صدى واسعٌ لدى جمهور الناس، من حيث الإقبال عليها للمشاركة فيها من قبل المواهب الشابة في مختلف الأنشطة الفنية والأدبية.

وقد شاركت فرقة هون الموسيقية التي تأسست بشكل عفوي، كما يقول عمر مسعود، في مسابقة النشاط المتكامل لتفوز بالترتيب الأول على مستوى ليبيا عام 1978. وقد انضم إليها لاحقًا المزيد من العازفين.

ألف الفنان عمر مسعود عشرات الأغاني والقصائد الفصيحة، يصل عددها إلى المائة، ووضع الألحان لها. بعضها أغانٍ عاطفية وأخرى وطنية إضافة إلى أغانٍ تتغنى بسحر الطبيعة وجمالها، وأغان موجهة للأطفال، وأغان دينية.

بعض الملاحظات حول الكتاب
لا شك في أن هذا الكتاب يعد جهدًا توثيقيًا مهما لتجربة هذا الفنان، يسلط الضوء على مسيرته الفنية المميزة بما حملته من معاني الكفاح والنضال من أجل تأسيس للفن الغنائي في مدينة هون ومنطقة الجفرة، والسعي للارتقاء بالذائقة الموسيقية وتنمية الحس الجمالي لدى الجمهور، والدفع بالأغنية باتجاه الحداثة على صعيدي الكلمة واللحن. وأيضًا على صعيد تأسيس الفرق الموسيقية والمسرحية.

ونحن في أمس الحاجة إلى هذا النوع من الكتب التي تؤرخ وتوثق وتساهم في إحياء تجارب فنية، ينبغي ألا تهمل، بل يتعين البناء عليها، وتطويرها من خلال الأصوات الجديدة والأجيال الجديدة من الفنانين الشباب والفرق الفنية. ومن المؤسف أن تسجيلات الأعمال الغنائية لهذا الفنان لم يتم توثيقها.

حيث يذكر الفنان مسعود في هذا الكتاب أنه قام بتسليم جميع ما يملك من تسجيلات لأعماله الغنائية الموجودة بحوزته إلى نادي هون الرياضي الثقافي، ثم يضيف: "ولم تكن بالنادي أي جهة مهتمة أو مكلفة بالتوثيق أو التدوين".

والسؤال الذي يطرح نفسه ونحن نقرأ مثل هذه المعلومة، ما الذي بقي من أعمال هذا الفنان الغنائية المسجلة؟ وهل مازالت الإذاعة المسموعة والمرئية تحتفظ بتسجيلات حفلاته، خاصة تلك التي شارك فيها في كل من طرابلس وبنغازي؟ وإذا كانت موجودة لماذا لا يتم تقديمها عبر التلفزيون الليبي والإذاعة المسموعة؟

كان من الأهمية بمكان لو أن معدّ الكتاب الأستاذ زاقوب قدم لكتابه بمدخل عن الأغنية الشعبية في هون، وفي منطقة الجفرة عموما، وقدم شروحا لنشأتها والبيئة الاجتماعية التي ظهرت فيها، وأبرز ممثليها وأهم الأعمال الغنائية التي لاقت نجاحًا وانتشارًا في البلاد عبر فرقة هون، إلخ. لاحظت في هذه السيرة أنه كان هناك الكثير من الإسهاب في السرد، والاستغراق أحيانًا في تفاصيل غير ذات أهمية. إضافةً إلى الكثير من التكرار.

وأيضًا عدم مراعاة التسلسل في رواية الأحداث، والانتقال بين المراحل بطريقة أقرب إلى القفز في السرد، الأمر الذي يعيق فهم مسيرة هذا الفنان الكبير الذي يستحق أن يتم تخليد اسمه بتسميه أحد المرافق الثقافية في ليبيا باسمه، كما اقترح الشاعر الصيد الرقيعي في مقدمة الكتاب.


* عبد الله زاقوب: عمر مسعود... سيرة فنان. وزارة الثقافة والتنمية المعرفية. 2021- طرابلس.