Atwasat

عن فن الرواية والتاريخ

جمعة بوكليب الأربعاء 31 أغسطس 2022, 11:55 صباحا
جمعة بوكليب

الذين منا، لسبب من الأسباب، أو لظروف خاصة بهم، لم تتح لهم، خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، فرصة العيش في ليبيا، أو منعتهم منها، وهم كثر، بإمكانهم، إن شاءوا، العودة إلى تلك الفترة، وتذوق طعم تلك الأعوام المُرّة، بقراءتهم رواية «العلكة» للكاتب المبدع منصور بوشناف.

في تلك الرواية التي أعتبرها، واحدة من أجمل ما قرأت شخصياً، من أعمال روائية على وجه العموم، ينفذ الكاتب ببصيرته وإبداعه إلى قلب تلك الفترة المعتمة والساكنة حد الموت، حيث يتوقف الزمن، وينزع عنها، بجمال، القشرة الخارجية، كاشفاً ومشخصاً ماهية الداء، مثل جرّاح ماهر، يعرف عما يبحث ويريد، وينتهي من حيث بدأ، في دورة زمنية استمرت عقداً من الزمن، وفي نقطة من ذات المكان، في حديقة الغزالة بطرابلس، حيث يجلس رجل على كرسي، في مقهى، ثابتاً ساكناً في مكانه، طيلة عشرة أعوام كاملة، بلا حراك.

وفي رأيي الشخصي، تظل تلك الرواية علامة أدبية لا تخطئها عين، ومحطة مهمة يتوقف عندها النقاد والباحثون، وتمثل نقلة نوعية مهمة في الرواية الليبية والعربية، شكلاً ومحتوى.

الروائيون أنواع. لكن الروائيين من نوعية منصور بوشناف قلة متميزة. وهم أينما كانوا، ومهما اختلفت بيئاتهم، موهوبون، وترفدهم ثقافة واسعة، ويمتلكون ذائقة جمالية راقية، وعلى اتساق مع حراك واقعهم وتاريخه، وفي حوار دائم معه.

ومنصور بوشناف واحد منهم. وهو، على عكس إبراهيم الكوني وعوالمه الصحراوية، ابن مدينة، وعالمه المدينة. والمدينة، طرابلس تحديداً، تحظى من اهتمامه بمنزلة خاصة ملحوظة. وهي، أي طرابلس، مبعث أرقه ومحور قلقه وأسئلته، وهدف مشروعه الروائي، كما أبان مرّة في مقابلة أُجريت معه. لذلك السبب، يسعى منصور بوشناف إلى التنقيب في تاريخها، وإعادة كتابته روائياً، كما عرفه و قرأه واستوعبه حياتياً، ولا يتردد في الاشتباك معه محاولاً تفكيكه وإعادة تركيبه وفق رؤيته الخاصة.

وروايته الثانية المعنونة «الكلب الذهبي» تأتي في هذا السياق، وتأكيداً له.

التاريخ، محطّ اهتمام منصور بوشناف، ونقطة المركز في عالمه الإبداعي. ليس فقط في روايتيه، بل أيضاً في مسرحيته: «تداخل الحكايات عند غياب الراوي». وفيما ينشره كذلك من نصوص ومقالات. وهو في ذلك يقف على أرض مشتركة مع روائي ليبي آخر مميز، هو المبدع صالح السنوسي.

بوشناف يعيد، بمنهج الفن ووسائله وأدواته، كتابة التاريخ الليبي. والسنوسي أيضاً يشاركه ذلك الاهتمام بشغف، إلا أن الأخير يتميز بعين أوسع، تحرص على رصد الحراك في محيطه العربي. ويُلاحظ أن السنوسي، في أعماله الروائية الأخيرة: «يومياتُ زمن الحشر».

و«الهروب من جزيرة أوستيكا» وأخيراً «أزهار بيضاء على تخوم المقبرة» ركز، بشكل خاص، على الاشتباك روائياً بالتاريخ الليبي.

هذا الاهتمام بالتاريخ، لدى كاتبين وروائيين ليبيين مرموقين، مؤشر مهم على أهمية التاريخ، وعلى إعادة كتابته بما يضمن سد نواقصه وتصحيح عواهنه، وكشف المخبأ من أسراره.

والتأكيد على أن الروائي بإمكانه السير، يداً بيد، مع المؤرخ، في طريق واحدة، ولكن بأدوات الفن ووسائله، وبعينين مختلفتين، وأسئلة مختلفة كذلك. المؤرخ، في العادة، ينحاز إلى السلطة القائمة، وينحاز الروائي مخلصاً لشعبه ولأمته وتاريخها ولفنّه. وربما لذات السبب، نقرأ في الرواية تاريخاً مختلفاً عما يوثقه المؤرخون.

الرواية بتميّزها كجنس أدبي، توفر للروائيين مساحة تمكنهم من إطلاق العنان لمواهبهم، وأسئلتهم، وقدراتهم على الغوص في عوالم مختلفة عن تلك التي ينشدها المؤرخون ويسعون إليها، وتمنحهم فرصاً عديدة لطرق أبواب أقفلها المؤرخون عمداً وراءهم، لحاجة في نفس يعقوب.

وهم حين يغامرون، لا يكتفون، أغلب الأحيان، بطرق تلك الأبواب فقط، بل بفتحها، وإن لم يكن ممكناً، بالتلصص، من خلال الثقوب والشقوق، بحثاً عما تخفيه وراءها، وتحجبه عن الأعين، يحفّزهم في ذلك خيال مبدع، وفضول معرفي، وأسئلة تقلقهم، تتوالد في قلوبهم وعقولهم، وتقودهم حاسة الروائي والمؤرخ معاً.

ويفعلون ذلك بجمال فنّي راق. لأن الإمتاع في القلب من الفن. ومن دونه، لا يكون إبداع ولا فن.