Atwasat

حين رقصت رئيسة الحكومة الفنلندية

جمعة بوكليب الخميس 25 أغسطس 2022, 11:34 صباحا
جمعة بوكليب

ظهرت فنلندا على سطح الأحداث أخيراً. وبدأت تستحوذ على عناوين الأخبار في مختلف وسائل الإعلام الدولية. عقود زمنية طويلة مرت، شهد خلالها العالم حروباً، باردة وساخنة، ومر بتقلبات عديدة، صعوداً وهبوطاً، لكن فنلندا، خلال تلك العقود، ظلت محجوبة عن وسائل الإعلام، أو بالأحرى، حجبت نفسها عن العالم، وفضلت الدوران في مدار خاص بها.

وخلال الثورة التكنولوجية الأخيرة، برزت فنلندا قليلاً على السطح، عبر شهرة طالتها تقنياً، حققتها من خلال تصنيعها للهاتف النقال المعروف باسم «نوكيا- Nokia» إلا أن فنلندا ازدادت حضوراً في وسائل الإعلام الدولية، خلال بداية الحرب في أوكرانيا، في شهر فبراير الماضي. وخرج علينا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ذات يوم، بمبادرة لوقف الحرب، أطلق عليها اسم «فنلندنة أوكرانيا»، ويعني بذلك منح أوكرانيا وضعية مميزة في علاقتها بروسيا، تشبه العلاقة التي جمعت بين روسيا وفنلندا، منذ أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي. العلاقة المقصودة، بين حكومتي هلسنكي وموسكو، تأسست خلال نشوب الحرب الكونية الثانية، لدى قيام موسكو، بقيادة جوزيف ستالين باجتياح أراضي الجارة فنلندا، بهدف ضمّها للإمبراطورية السوفياتية الناشئة. لكن قوات موسكو واجهت مقاومة شرسة من قبل الفنلندنيين، وعادت مدحورة إلى قواعدها.

تلك الهزيمة المُرة اضطرت ستالين إلى قبول استقلال فنلندا، والتعهد بعدم اجتياحها لقاء منح موسكو «فيتو» على سياستها الخارجية. بمعنى أن علاقات فنلندا بدول العالم الأخرى تحدد وفقاً لما تراه موسكو مناسباً لأمنها القومي. وعاشت فنلندا دولة مستقلة من دون تدخل روسي في سياستها الداخلية، لقاء عدم الإخلال بالاتفاق.

مبادرة الرئيس الفرنسي ماكرون لوقف الحرب في أوكرانيا، المسماة «فنلندنة أوكرانيا» قوبلت بالرفض من أوكرانيا والغرب، ودُفنت في صمت.

موقف فنلندا المناويء للاجتياح الروسي للجارة أوكرانيا، وخوفها مما يحاك في قصر الكرملين من تدابير محتملة مستقبلياً ضدها، اضطر حكومتها إلى المسارعة بتقديم طلب للانضمام إلى حلف الناتو. ولاقى الطلب الفنلندي، مرفوقاً بطلب من مملكة السويد، ترحيباً من الحلف الأطلسي. ولم تبدِ موسكو اعتراضاً، طالما أن الانضمام، حسب بيانها، لا يعني وجود قوات من الحلف على الأراضي الفنلندية. وراقبت موسكو باهتمام المناورة العسكرية التي أجرتها قوات حلف الأطلسي في فنلندا قرب أراضيها. لكن انشغال موسكو بالحرب في أوكرانيا، والتفكير في إحباط العقوبات الاقتصادية ضدها، والالتفاف حولها بشتى الوسائل والحيل، منح الحكومة في «هلسنكي» نوعاً من ارتياح مفخخ ومؤقت. ويبدو أن ذلك المناخ، كان بهامش صغير أتاح فرصة أمام رئيسة الحكومة، البالغة من العمر 36 عاماً، لقليل من لهو بريء أخيراً، خلال إحدى عطلات نهاية الأسبوع. إلا أن الرياح سارت بعكس ما اشتهت سفينتها. إذ سرعان ما وجدت نفسها في خضم عاصفة سياسية تجاوزت فنلندا، وأضحت حديث العالم.

القصة تقول إن مواقع التواصل الاجتماعي، في فنلندا وخارجها، بثت شريطاً مصوراً لرئيسة الحكومة الفنلندية السيدة سنّا مارين- Sanna Marin، وهي متواجدة في حفلة رقص وشراب، مع أصدقائها وصديقاتها. أنا شخصياً لم أشاهد الشريط المذكور، رغم الإمكانية المتاحة في الإنترنت. لكني اكتفيت بما رأيت من صور منشورة في الصحف، وفيها تظهر السيدة مارين بملابس تتسق والمناسبة محل الحديث، وتتعارض مع متطلبات منصبها، خاصة في الصور التي تظهرها وهي ترقص بنشوة، وكأنها سالومي التي رقصت لتقتل يوحنا المعمدان.

ولمن لا يعلم، فإن الرقص واللهو البريء واحتساء الكحول في فنلندا، لا تدخل ضمن دائرة المحرمات دينياً، أو دائرة المحظورات قانونياً، واجتماعياً وأخلاقياً. وبالتالي، فمن الناحية الدينية والقانونية والاجتماعية والأخلاقية، لم ترتكب السيدة مارين -أصغر رئيس حكومة في العالم- فعلاً مخالفاً يستوجب العقاب أو الاعتذار. لكنّها، في الوقت ذاته، منحت خصومها السياسين سيفاً لحز رقبتها. أولئك الخصوم لمّحوا سريعاً إلى إمكانية أن تكون في الحفل مواد مخدرة (كوكايين). السيدة مارين أنكرت ذلك، وقالت إنها زوجة وأم، وامرأة عاملة، من حقها اللهو في أوقات فراغها مع أصدقائها. وحتى هذا العذر، على ما يبدو، لم يكن كافياً لوقف سيل الانتقادات من خصومها السياسيين، الذين أنكروا عليها اللهو في وقت تمر فيه البلاد بأزمة اقتصادية صعبة، والجيش في حالة استنفار قصوى. الضجة لم تتوقف. والسيدة مارين واصلت حياتها وواجباتها في إدارة الحكومة وتسيير شؤون البلاد، وبعد أيام أعلنت في مؤتمر صحفي أنها تطوعت بإجراء فحص طبي لإثبات عدم تعاطيها للمخدرات، ولم* تظهر النتائج بعد.

فنلندا البلد الغامض، في تلك البقعة الباردة والنائية من العالم، ما زالت في حالة استنفار قصوى. ترصد بحذر، وتراقب عن كثب، مجريات حرب مهلكة في أوكرانيا، تدور رحاها بالقرب منها. والفنلنديون، على ما يبدو، في خضم انهماكهم في متابعة القصة، تجاهلوا الخطر الروسي المحتمل ومشاكلهم الاقتصادية، وصاروا يترقبون، على أحر من الجمر، كيف ستكون النهاية.

* ظهرت النتائج يوم الاثنين الماضي وجاءت سلبية. (المحرر).