Atwasat

رومانسيات شكسبير والراديكالية

عبد الكافي المغربي الأحد 21 أغسطس 2022, 03:06 مساء
عبد الكافي المغربي

كتب الناقد الماركسي الإنجليزي Terry Eagleton عن المأساة الشكسبيرية: «يقال إن التراجيديا هي أكثر الأشكال الأدبية اصطباغاً بالدم الأزرق، معنية بهبوط الأمير، ولم تُبْدَع لرواية موت سائق تاكسي». وإذا كان Terry Eagleton بِمُلَحِه الفكاهية التي يحقن بها أصعب مؤلفاته يؤكد أن المأساة راديكالية وهدامة بامتياز، فإني أرى، على اتفاق مع الماركسيين أن الرومانسية هي نوع أدبي أكثر محافظة، بيد أني أحكم أن الخطر يتنفس في طيات الرومانسية، ومستعد دائماً للوثوب لتهديد الثقافة الإنجليزية في عصر جيمس الأول.

تقع رومانسية Cymbeline في الفترة التي شهدت ظهور السونيتات، في خريف شكسبير. المسرحية تصرف غير متقيد بالسرديات التاريخية والشعبية عن حقبة كيونوبيلين آخر الملوك السلت في الجزيرة، في شكسبيرية مناقضة لأسلوب صاحب رادوبيس، الذي صنع من التاريخ المسجل ما له مذاق الأدب المحفوظي الذي يسلب منك معنى الوقت ولا يُسْلِمُك للنوم إلا وقد أكملت روايته.

ونحن لا نقصد إلى تلخيص المسرحية المستبعدة عادة عن مكتب القاريء الإنجليزي، والتي لم تحظ بتمثيل مسرحي كاف حتى في زمن شكسبير. إن مقالاتنا نقدية، تهدف إلى طرح فهمنا للعمل الأدبي.

وفقاً للسجلات التاريخية، التي تأتي على صورة نقوش أو آثار أو التواريخ الرومانية المعاصرة أو المؤلفات الفولكلورية في العصور الوسطى، كان سكان الجزيرة البريطانية الأصليون، السلت، يتمتعون باستقلال تام قبل الحملة الرومانية الأولى ليوليوس قيصر، التي حققت مكاسب سياسية وفرضت الجزية قبل أن يفقد قيصر اهتمامه ببريطانيا، متطلعاً إلى مصر، وملكتها ذات الجمال القهار.

بعد 100عام من الحملة القيصرية، وتراجع ذكرى الهزائم إلى النسيان، تحدى كاراتاكوس ابن كيومبولين روما، فسحقته جيوشها كما ستفعل مع آخر ملكة عربية، زنوبية بعده بنصف قرن، ليخلص الغرب والشرق للإمبراطورية العظيمة.

كان كيومبولين يحافظ على علاقات ممتازة مع الرومان، غير أن أبناءه كانوا مستقلين عن إرادته إلى حد ما، فقاد إيبيتاكوس حملة لإخضاع قبيلة الترينوفانت الموالية لروما، إذ إن أغسطس كان إبان ذلك يلملم جراح أول هزيمة له أمام قبائل الشمال المتبربرة، فلم يستطع إنقاذ حليفه في بريطانيا.

وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير، بعد وفاة كيومبولين، هجوم كاراتاكوس على قبائل البلجي شمال غالة وتهجيرها إلى الجنوب، ولجوء زعيم البلجي إلى روما، لتتلو الحملة المعروفة للقيصر كلوديوس وإنهاء الحكم السلتي، وسيبقى في بريطانيا العنصر السلتي مؤتلفاً بالتكوين الروماني، حتى طوفان الأنغلوسكسون الذي سيحول الحديقة إلى قفر، ولن تستيقظ بريطانيا من ظلام العصور الوسطى الكثيف إلا بينما يتم شكسبير عقده الثالث.

تجنب شكسبير معالجة هذا التاريخ، مفضلا رومانسية العائلة، ليتاح له النقد الاجتماعي. نعم، سينتصر Cymbeline بفضل شجاعة البريطانيين، لكن شكسبير صور Cymbeline نفسه في صورة سلبية، بانسياقه إلى ما تقره زوجته، وإصراره على ارتباط ابنته Imogen بالأحمق، المخبول بامتياز Cloten، لعراقة أصله، وهذا يفضي إلى احتقارنا للملك.

كان شكسبير يشعر بوخز الضمير إزاء الفقراء الذين انهمروا كطوفان على الحضر الإنجليزي، في أعقاب تصفية أراضي الأقنان وآخر الأبرشيات الكاثوليكية، وبينما هو آمن في موقعه في الطبقة البرجوازية الناشئة، مرسلا مثلا لـ D.H. Lawrence منح شكسبير صوتاً للفقراء كان مكتوماً، وحضوراً آسراً في مآسيه وبشكل خاص في مسرحيات المشكلة The problem plays.

بل نحن لا نملك إلا أن ننساق وراء وهم أن شيخ الأدب كان يتألم لتأسيس إنجلترا الجديدة في أميركا، فينضم إلى Montaigne والمطران الإسباني de las Casas في حماية الهنود ومدح نمط معيشتهم. نحن ننساق لذلك بتصويره لشخصيات Belarius ومستقبل الأميرين الصغيرين Guiderius وArviragus اللذين تخطفهما Belarious للانتقام من الملك لتصديقه النميمة في ولائه. Belarius وأبناؤه يعيشون على الصيد، ويأوون ليلاً إلى كهف، ينحنون للشمس واهبة الحياة مطلع كل يوم ولا ينتصبون مستكبرين كالنبلاء وكبار البرجوازية، ويرغبهم Belarius في رومانسية انعزالية الطبيعة، ويبغضهم في الحضارة، دسائس البلاط، وزيف المظهر، والخوف المطلق المعشش في هذه الأجواء حيث لا يهنأ أمير بإمارته.

وفضلا عن ذلك، أكدت المسرحية رقة شخصية Posthumus Leonatus، وصواب اختيار الأميرة له، برغم وضاعة أصله بالقياس إلى ابن زوجة والدها.

وإذا كان لا بد لشكسبير إذا أراد لمسرحيته أن تحظى بجمهور أن يصور انتصاراً وهمياً للسلت، الذين وعلى كل حال لا يمتون بصلة لأسيادهم الإنجليز، لم ينقطع شيخ الأدباء عن توبيخهم، وناهجاً نهج فلاسفة الأنوار الفرنسيين في تمجيد روما وصب لعانهم على يوم غزو القبائل الجرمانية المتبربرة لأوروبا الغربية والجنوبية، فأنطق كاسيوس لوكيوس بالثناء على الخُلق الروماني في استبقاء الأسرى «إذا بردت الدماء واستقر الأمر لنا في جزيرتكم ما كنا لنقتل أسراكم، وإذا لم تك ثمة دية لحياتنا إلا حياتنا نفسها، فاقضوا أمركم، وسوف نستقبل الموت استقبال الروماني البطل، وعزاؤنا أن أغسطس وراءنا».

وأخيراً، للتشديد على أن الرومانسية لا تقل خطورة عن التراجيديا برغم أنها تَعِد بترميم النظام ونهايات حلوة، نريد أن نقول أن شكسبير تجنب هنا إصدار أحكام، ذلك أن Posthumus الذي ستسلم له كل شخصيات المسرحية بمن فيهم أوغادها بالتفرد على كل من عرفوه من البشر في سماحته وشجاعته، وقع فريسة للغيرة، وصدق نميمة Iachimo في زوجته الأميرة، وبعث إليها من يقتلها، ليفترسه الندم، ويلعن الخادم الذي وقع في الخيانة بالاستجابة له. Posthumus رجل صالح، لكنه ضعيف، متقلب، إنسان.

رفض شكسبير المطلق دائما، وهذا ما خلق منه أديبا منقطع المثال.