Atwasat

التنظيمات السياسية في ليبيا 1952-1969 (1)

سالم الكبتي الأربعاء 17 أغسطس 2022, 11:18 صباحا
سالم الكبتي

عشية استقلال ليبيا في الرابع والعشرين من ديسمبر 1951 اقترب العام من نهايته وأوقد العالم الشموع في الساحات والشوارع وظلت أيام الصقيع متواصلة. فصل الشتاء بلياليه الباردة التي يعرفها الليبيون جيداً. ليس ثمة دفء في الغالب سوى من خلال مواقد الفحم والحطب. أضحت البلاد رغم الصقيع في وضع جديد ونالها بعض الدفء. ستبدأ الدولة الجديدة الفقيرة السير على مهل بعكازين في مشوارها الطويل. العالم الدافيء سيراقب الخطوات الواهنة بأشفاق.

كان في البلاد فراغ يلوح أمام كل الأعين في العمل السياسي. لم تعد ثمة أحزاب أو جماعات أو منظمات تقوم بذلك النشاط الذي سيغدو (محرماً). وتبعا لذلك تأخرت تلك الأحزاب وابتعدت. أوقف حراكها لأسباب مختلفة ومنعت بطريقة معلومة أو مجهولة من الاستمرار وإن لم يجر تفسير هذا المنع للجميع

كانت الدولة تنهض من الغبار وتسير على العكازين فقط. لا أحد يسندها أو يرفدها أو ينظر إليها غير الأمم المتحدة ومساعدات بعض الدول الغنية. وكان طموح هذه الأحزاب والكيانات التي لم تكن عريقة أو ذات جذور في الواقع.. يتحدد قبيل إعلان الاستقلال في أمر واحد هو تحقيق هذا الاستقلال وليحدث بعده ما يحدث. سيعلو بناء البيت الليبي رغم كل الصعاب.

ظل حلم الأحزاب يرتبط في الأصل بالحرية وتأسيس الكيان الوطني وسط عالم خرج من نار الحرب وغداً يصلح ويرمم الخرائب ويبني مدنه المهدمة. كان العالم تلك الأيام ورشة ضاجة بالأسمنت والحجارة والحديد والأخشاب والزجاج والعمال المشوهي الوجوه.
اتفقت تلك الأحزاب عندنا في هذه النظرة الواحدة لمطلب الاستقلال وتحقيقه وناضلت من أجله بما توفر لديها من وسائل وإن تباينت بينها المفاهيم وطرق النضال أو اختلفت أطيافها على امتداد الأفق البعيد.

كان هذا النضال (الحزبي) في أغلبه سلمياً وظل يحدث عن طريق المهرجانات والاجتماعات والمظاهرات وإعلان البيانات وإصدار الصحف وبرز خلال هذا الحراك الذي كان يفور قبيل تلك الغداة المليئة بالصقيع والمطر.. برز الكثير من الوجوه التي تميزت بنصيب من المعرفة والثقافة والفهم في بعض جوانب السياسة وقضاياها.

وأضحى هذا الحراك أيضاً من قبل من تصدر الساحة يراعي الخطوط (الحمراء) والتقاليد والعلاقات الاجتماعية والعديد من الاعتبارات والحسابات. ولم يكن يصحب هذا النشاط في المدن والدواخل أي نوع من العنف أو تصفية الخصوم أو التهديد سوى من بعض الاستثناءات العابرة التي لم تكن قاعدة أو سمة تعتري ذلك الحراك السياسي في البلاد.

لم تكن ثمة اغتيالات أو تفجيرات أو أعمال خطف أو مساومات وابتزازات للآخرين وكانت السلطات في (الأقاليم الثلاثة) ترصد ما يدور وتعرف كل الخبايا والأفراد الذين يتحركون وينشطون وأحياناً تتدخل إذا لزم الأمر في الوقت المناسب على طريقتها الخاصة. وقد تمثلت السلطات المعنية بالأمر في وجود الإدارتين البريطانية والفرنسية مع (الإدارة المحلية الموقتة) في تلك الأقاليم.

وفي وجه العموم خلال تلك الفترة التي مرت بالبلاد قبيل الاستقلال ظلت كل الأحزاب والجماعات تعمل في المدن على الأكثر بصورة ملموسة وظلت تقل في مناطق الدواخل التي كانت تشهد بين حين وآخر مجيء رجال الأحزاب وأعيانها والعديد من الوجهاء في بعض المناسبات لتنال الترحيب بحفاوة!

وعلى كل حال وفي المنظور التاريخي لم توجد رؤية سياسية لاستشراف المستقبل أو منهج عمل قادم لدى هذه الأحزاب رغم الحفاوة والتصفيق. ظل حلم الاستقلال وإنجازه على الأرض كما ذكرنا هو السقف العالي الذي لا بديل عنه ولا يمكن التراجع خطوة واحدة في سبيله.

تلك كانت شعارات النضال في المنطقة أيضًا منذ زمن وانتقل إلينا.. (الاستقلال التام أو الموت الزؤام). لكن في الواقع لم يمت أحد من الأحزاب في ليبيا تلك الأيام التي ولت بعيدة.. ونهض الاستقلال من المخاض والركام المرير.