Atwasat

الفصول المرتبكة

بوابة الوسط - القاهرة الخميس 28 يوليو 2022, 03:55 مساء

يعتبر الموروث في العلوم الاجتماعية عموماً بأنه حالة تراكم داخلي يظل متفاعلاً مع ذاته ومع الوافد في تمازج حياتي مستمر، مما يجعل الموروث، في مدى معين، ناقداً لذاته، ومتجدداً في كيانه كثقافة أو كحضارة، ومع مرور الوقت يكون الوافد قد انصهر في رحلته كمتدخل - أو كمقتحم - لكيان جديد عنه، بحيث يصبح عبر تفاعله واحتوائه جزءاً من الموروث، فيسهمان معاً في صناعة الوعي والمعرفة لحاضرهما على ضفاف الإبداع.
لعل التفاعلية بين الموروث والوافد لا تكون واضحة لكل ناظر، خصوصاً بالمجتمعات التي تعيش في طقس رديء، وأحوال متقلبة باستمرار، تماماً كما هو حال ليبيانا. تمازج الفضائل، كظاهرة حضارية تستوجب وعياً حيادياً بقصد تحقيق فسحة مدنية وحضارية بعيدة عن عقلية الغلبة المتربصة بالآخر، والمتمسكة بنهج الإقصاء المتعمد للغير.

وعينا العربي اليوم لا شك في أنه وعي ناقص، أو ربما مشوش، بسبب تكوين عقليتنا العربية المبنية على الغلبة والاغتنام واحتكار اليقين. كما أن ما بعد الحداثة وترسخ النزعة الفردية وشيوعنا كبشر في أنظمة شمولية قد أجهضت الوعي بشكل لافت، وخلقت بالتالي عزوفاً في صفوف شرائح مجتمعاتنا، وضمن مستويات الوعي فيها، إذ أضحى الوافد مكبلاً بالحاكم، والمثقف يكابد محنته مع السلطة في تعقيد مزمن رغم جدية القضايا التي يتخاتل معها النص، ويناور بذات اللحظة، أصحاب الفكر بتبيئة الطرح مع نهج السلطة الحاكمة أو بما يروق المذهب الرائج. لقد كان دائماً شاقاً على المثقف العربي أن يكفر بقوقعته معلناً التمرد صراحة، فنقابته أو اتحاده ظلت عادة مرتبطة بالاستخبارات أو إدارة الاستعلام، مما ضيق أفق الفكر العربي ورؤاه، رغم أن المعركة الحقيقية التي تخوضها أجيالنا اليوم معتركها الاحتلال الفكري وإرباك الإيمان بالذات وزعزعة الوطن، كثابت، في الوعي والوجدان، لقد ظلت المعركة شعاراً سياسياً لترسيخ سلطة الحاكم لا غير على مدى أعمار الأجيال الحالية.

خبر توقف مجلة الفصول الأربعة الليبية عن الصدور يأتي ضمن كل السردية أعلاه بكل أسف. قصة تأسيس رابطة المُصدر للمجلة المذكورة وحكايتها المحشورة بين التوقف والاقتحام وإعادة الصدور حالة تعكس الكثير عن تلابيب حقيقتنا، وتكشف عن مدى شيوع الدربكة كخاصية تتسم بها كينونتنا. كل التقلبات التي عاشتها رابطة الأدباء والكُتاب تعود للعوز الشديد في الفهم على خلق صيرورة حقيقية لكيان سيملك يوماً طقوسه وتقاليده، كل الاضطراب في سيرة حياة رابطة الأدباء والكتاب والفنانين من شجار وإقصاء ووضع يد يشكل تفاصيل تجعل من المتتبع البسيط في حالة تيه ودهشة مما جرى ويجري لذاك الكيان الذي لا يزال يفتقد لنص قانوني تأسيسي ومهني يتجاوز قانونا 44 و45 لعام 1976 اللذين جرى تجاوزهما بقرار من القذافي بدمج الكُتاب مع الفنانين بنقابة واحدة بعقد الثمانينيات من القرن الماضي، والتى انتهت بالخلافات والمماحكات بين الكُتاب والفنانين مكرسة للانقسام إلى نقابتين دون تصحيح الأوضاع قانونياً، ولا العودة للأوضاع السابقة قبل قرار القذافي حينها.

لا شك في أن مجلة الفصول الأربعة ظلت تصدر أعدادها ضمن قانون المطبوعات الليبي سيئ الصيت، وضمن مناخات مُلبدة ورعدية، ولا تزال أحوال الطقس هذه تسيطر على حال الكلمة بليبيا اليوم. قانون المطبوعات الليبي لا يزال قانوناً ذا صبغة عقابية صرفة، أكثر من بروز روح تنظيمية متفتحة وعصرية، تعتز بالحرية وتحترم الكلمة ومصمصة على النجاح بدل التشبت بلعبة «حفظ الحال على ما هو عليه».
من المؤسف أن تتوقف مجدداً مجلة الفصول الأربعة، فمكابدة المشاق والمعضلات حتماً مُنهكة، لكن الكلمة في ليبيا لن تزدهر طالما أن صاحب القلم لا يزال يقف مرتجفاً أو عازفاً بسبب أحوال رديئة مستدامة بالقرصنة والفوضى والرصد ونصوص عتيقة وبالية ومتخلفة، والأهم في ظل غياب «نقابة» قوية وقانون تأسيسي عصري.