Atwasat

أنا أخاف

عبد الكافي المغربي الإثنين 25 يوليو 2022, 08:14 مساء
عبد الكافي المغربي

من الروايات التي يمكن أن تهديها لطفلك، مطمئنًا أنها لا تكاد تعالج تنكر الواقع لآمال الحالمين الكبار إلا من وراء سُتُر رمزية خيالية، تقع سيد الذباب صاحبة نوبل لـ«William Golding»، وإلى حد ما روايتنا «أنا لا أخاف» المحرزة لانتباه عالمي لـ«Niccolò Ammaniti».

كانت «أنا لا أخاف»، التي اطلعنا على ترجمتها العربية المهذبة التونسي أحمد السمعي، تسير في طريق مبشر حقًا، يعزينا في عصر تدهور الأدب الذي يبيع. ولا يسع القارئ النهم الفاحص ألا يلمس أصداء سيد الذباب في «أنا لا أخاف»، بتوزيع شخصياتها واتجاه حبكتها الأولى.

لكن كاتبها قصد أن يقطع ما اتصل من عرى روايته بأدب الموقف Literature of The Situation، وعوضًا عن انتظار Waiting for Godot الطويل وغير المجدٍي في Samuel Beckett، أو تصوير موقف الغريب من حياة القطيع الآمنة المؤمنة، المسلحة بقوانين تنزلها منزل الوحي في مصادفة العبث، عند Albert Camus، إذ بالكاتب يقصينا عن لذة قراءة مواجهة طفل مع موت بشع متمثلًا في واحد من نوعه. وكان يمكن للمواجهة أن تجري أحداث الرواية على نحو آخر أعمق حكمة وأمتن اتصالًا بعذابات الإنسانية وعجز غرورها.

رأى الكاتب رأيًا آخر، ضد أسلوب بارع وسردية منذرة بالتعملق، وهو يروم غزوه لسوق الكتاب. فإذا به يحيي الطفل الأشقر الشمالي، ويحول احتمالات الرواية إلى قصة إجرام الكبار وخيبة الطفولة وتحديها لسلطة منحرفة، ومأساة فقر جنوب إيطاليا مقابل ترف الشمال. والأصدق أن الكاتب لم يحيِ ابن السراة من موته، فلقد كان الصبي مستسلمًا لسكون الموت في قاع الحفرة حتى أن الحصا التي رماه بها الجنوبي الصغير ليستوثق من طبيعة هذا الشيء لم تستفز منه حركة، فبدا لأول وهلة كذئب أبيض ودع عنفه وتراخت يقظته.

نتفهم حاجة الأدب لجدلية التغيير، غير أن غارسيا ماركيز بلغ قصده بروح تواقة لتسنم ذروة الإبداع في «يوم الأحد السعيد»، محتفيًا بنبل الفقراء، منصرفًا عن التأكيد على احتمال عنفهم، مرغبًا في العدل، مشفقًا من الظلم في كل ذلك. بيد أن «أنا لا أخاف» أكدت انحراف الفقراء وحرصهم على دخول السباق، وطرح الهجرة إلى الشمال كحل والتخلي عن إنقاذ الجنوب.

انزلقت الرواية إلى ضن قرننا بالأدب الجاد على من أفسده نجيب محفوظ والطيب صالح وسارتر وإخوانهم من عمالقة القرن العشرين، عندما اختارت خلفية تشويقية هي نقل الطفل الميت الحي من حفرته بعد أن استوثق الخاطفون أن أحد أولادهم اكتشف الموقع وتحدث إلى الصبي، ونظفه حتى تألق بياضه الناعم من وراء أديم البدائية ورواسب القذارة الأولى، وتهديد البطل بذبح صديقه إذا بحث عنه، وسعي البوليس الذي لا يكل لتقويض العصابة.

إن الرواية تَحْشُر بطلنا الجنوبي في إهاب سوبرمان، ولعل مغامراته الأخيرة لإنقاذ فيليب تؤكد هذا الجانب المستحيل من سيكولوجية الطفل، بقدر ما أن استسلام فيليب مجانب للواقع. إنها لا تعالج مشكلة الفقر حتى، فنحن لسنا نعرف تمامًا أن فيليب قد استنار بتجربة خطفه وعناية صديقه الفقير به، وقصة لير كانت مناسبة للنقاد الماركسيين لرفض الإصلاح من فوق ولو كان الأمير هبط إلى خضم الانعدام واللامعنى في قاع الفقر قبل أن يعود فيتوج ملكًا. كما أن بطلنا المحبب انتهى به أمر الشباب في الشمال كما يظهر من لمحة مستقبلية في أول الرواية، مخلفًا جنوبًا حقيرًا مفتقرًا.

تجاوزت البيلاروسية Svetlana Alexievich في رواية جائزة نوبل «صلاة تشيرنوبل» حدود التلميح إلى تجلي التأكيد، في الإشارة إلى فشل الأدب الكلاسيكي، الروسي في نطاقها الثقافي طبعًا، في الاستجابة لعالم ما بعد الكارثة النووية، وإلى حاجة الإنتلجنسيا الروسية إلى التراجع عن الانكباب على آثار ثقافة لا يفهمها الناشئون ولا يقرأون نقدها. ولَعَمري، إن الأدب والنقد في طريقهما لرفض حكمة الغابرين تحت ذريعة الاستجابة لجحيم الواقع الذي لا يقل جحودًا عما أخرج روائع ماضٍ أدبي أصيل. وإني لأخاف من تطلع عصرنا إلى نهاية لا تموت فيها كورديليا، بقدر ما تطلب ظلام منتصف القرن العشرين إنعاشًا لهمجية وبدائية عالم الملك لير على حساب تأملات هاملت المأساوية التي شغلت القرن التاسع عشر المطمئن.