يقال أنصتَ/ يُنصِت، إنصاتًا، فهو مُنصِت؛ وأَنْصَتَ لِكَلامِهِ باهْتِمامٍ بالِغٍ أي اِسْتَمَعَ إِلَيْهِ بانْتِباهٍ وَأَحْسَنَ الاسْتِماعَ.
هذا من ناحية اللغة، أما في واقعنا فلا شك لدي أن "الإنصات" خصلة غائبة، ويحل بديلا عنها كل من الشد والجذب وعلو الأصوات والصراخ وانتفاخ الأوداج والوصول إلى الشتم والسباب، كل ذلك وغيره هو من السمات الظاهرة والغالبة والسائدة في أغلب الحوارات التى تدور بين مواطنينا بغض النظر عن المستوى الثقافى والمعرفى للمتحاورين، إذ الأمر فيما يبدو يتعلق بسلوك وأسلوب منتشر ومقبول، وسبب في غياب "الإنصات" الذي يعتبر المرتكز الرئيسي في عملية الاتصال البشري، بل يمكن القول.. أن الكلام والإنصات وجهان لعملة واحدة.
السمع درجات، تبدأ من الاستماع لكل الأصوات ثم الإصغاء وهو المرحلة الأولى من التركيز على صوت المتحدث، ثم ياتي الإنصات وهو غاية في التركيز مع الصوت المحدد، أي أن الإنصات هو أعلى درجة فى الاستماع لأن الشخص المتلقي حينها يكون بكامل تركيزه ليتمعن في الأفكار والمعاني في كل ما يسمع،
ولعل استحضار (وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) يؤكد لنا أهمية الإنصات.
ورغم ان الإنصات مهارة لا تتاح لكثيرين، غير أنها مهارة ميسورة الاكتساب لمن يرغب في التعود عليها، لا سيما إذا تيقنا من أن الذي ينصت أكثر يستفيد أكثر، فالإنصات يؤدي إلى زيادة التفاعل وسلامة التفكير ويساعد في إثارة رغبة المتحدث في الاسترسال والاستمرار في طرح فكرته، وإشعاره بأهمية ما يقول، والرغبة في الاستماع إليه.. ومن الناحية الأخرى فهو يساعد على فهم وتفسير وتحليل وتقييم آراء وأفكار وتعبيرات المتحدث كما هي دون تكوين اتجاه عكسي أو حكم عكسي، أو حكم مسبق عليه، حيث إن إبداء الأحكام من جانب المستمع يجعل المتحدث حذرا ولا يبوح بكل تفاصيل وعمق ما يطرحه من أفكار، وبالتالي تقل فرص طرح جوهر موضوع الحوار.
هل الإنصات يساوى السكوت؟
لا أظن ذلك، فالسكوت قد يكون بترك الكلام ممن يقدر على الكلام "ربما خوفا من الكلام"، وعندها يكون السكوت ليس من ذهب، كما يقول المثل الشائع، بل قد يكون رشوة معنوية تعطى للامتناع عن الكلام الذي يفترض أن يُقال.. وقد تكون كل التأويلات التي تدّعي جميعها الحكمة ليست إلا لذر الرماد في العيون لكي تستمر حالة سكون وسلبية المجتمع واستقرار ديمومة الخضوع؟ أما الإنصات فهو سكوت مع الرضا ورغبة فى الاستماع، ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات.
ومع عالم السمع ودرجات الاستماع، نعرج في هذا السياق إلى ما يسمى بحوار الطرشان.. فالأطرش يختلف عن الأصم، فالأطرش يسمع قليلا والأصم لا يسمع أبدًا، وجاء في المعجم المحيط أن الطرش هو أهون الصمم، أي أنه يسمع قليلا ولا يسمع الكلام كاملا أو واضحا، لذا يسعى إلى تقدير ما لم يسمعه، فيأتي رده على الطرف الآخر ليس من خلال ما قاله الآخر بل استنادا إلى تقدير ما لم يسمعه هو، وهكذا يتحول الحوار بينهما إلى حوار عقيم يستحيل فيه الوصول إلى نتيجة وفهم مشترك، ولذلك يصف البعض الأمر بحوار الطرشان.
نعود للإنصات.. فالشخص الذي يمارسه ينبغى له أن يتخلص من الأفكار المسبقة عن المتحدث، وامتلاك عقل متفتح يمكنه أن يتعاطف بالكلية مع المتحدث، وإذا ذكر المتحدث شيئا ما و لم يتفق معه فيجب أن يستمع بذهن متفتح لوجهات نظر الآخرين المختلفة، وهذا يستدعي بداية أن يكون مؤمنا إيمانا عميقا بالتعددية وقبول الآخر المختلف ويمتلك يقينا راسخا بحرية التفكير، ذلك الإيمان في تقديري هو المحفز للاستماع والإنصات.
الشاهد.. لا زالت حواراتنا تتسم بالهرج والمرج وعلو الأصوات والتشنج، وياليتنا نتعلم (الإنصات) للراي المخالف كأحد أهم أبجديات الحوارالإيجابى وقبول الرأي الآخر.
تعليقات