Atwasat

القرضابية.. أم ما بعدها

نورالدين خليفة النمر الخميس 28 أبريل 2022, 01:20 مساء
نورالدين خليفة النمر

تتجدد الاحتفالية بالجهاد الليبي ضد الطليان، بعد عشر سنوات من الثورة الليبية 17 فبراير 2011. حيث يشتعل إلى اليوم «جهاد» الليبيين ضد الليبيين. فتتحشد بلدية سرت على قدم وساق ليوم 30 أبريل للاحتفال بالذكرى الـ 107 لمعركة القرضابية التي ليس لها من صيت المعركة إلا مكان وقوعها في قرية قصر بوهادي 20 كيلومترا جنوب سرت. شعار الاحتفالية يطوب القرضابية بزعم مشاركة كل القبائل الليبية فيها باسم «معركة الوحدة الوطنية».

القرضاببة من الجانب الجهادي هي معركة الطريقة السنوسية، واختيار سرت كونها النقطة المكانية الأخيرة لنفوذها المعنوي في الغرب الليبي لصد زحف الجيش الإيطالي بقيادة العقيد مياني نحو فزان، وإنقاذ القبائل السنوسية الموالية في وسط ليبيا وجنوبها. وهذا تظهره مشاركة هذه القبائل تحت قيادة رمزية من السنوسي الشاب ابن الثامنة عشرة صفي الدين السنوسي بما هو معروف في الطرائق الجهادية السنوسية بـ«الأدوار»، فكان دور قبيلة المغاربة بقيادة صالح الأطيوش ودور قبيلة أولاد سليمان بقيادة حمد بن سيف النصر. في الجانب الإيطالي، بما وثقه الزاوي في كتابه «جهاد الأبطال»، اصطفت مجموعة من الجهويات الليبية المجندة في الجيش الإيطالي وقوامه 14 ألف عسكري باسم «الباندات» مصراتة ويقودها رمضان السويحلي، الذي يتسمى انتصار المعركة باسمه كونه ارتد على مجنديه الإيطاليين، فرجح الكفة لصالح المجاهدين الذين كادوا ينهزمون. أما الباندات الأخرى فكانت من نصيب بني وليد ـ ورفلة بزعامة عبدالنبي بلخير وترهونة الساعدي بن سلطان، وزليتن محمود عزيز، ومسلاتة محمد القاضي، وقماطة محمد بن مسعود، وساحل الآحامد عمر العوراني، والزاوية الغربية علي صهيب البلعزي.

ما خسرته إيطاليا عسكريا يبينه تقرير العقيد مياني وفقا للبرقية، التي أرسلها إلى حكومة الولاية، ووزير المستعمرات الإيطالي، التي ذكر فيها خسائره على النحو التالي: 1 ـ عدد 18 ضابطا إيطاليا وعدد 252 جنديا إيطاليا قتلى أو مفقودين، وعدد 1411 جنديا إيطاليا جرحى، وعدد 234 مجندا ليبيا قتلى وعدد 296 جريحا، وفقد عدد 11 قطعة مدفعية وعدد 3 رشاشات وعدد 3 سيارات وعدد من المعدات العسكرية. من بداية المعركة في 29 أبريل من العام 1915 إلى حلول منتصف شهر أغسطس من ذلك العام لم يتبق تحت السيطرة الإيطالية إلا مدينتا طرابلس والخمس على الساحل الغربي الليبي. 2 ـ الإطاحة بحكومـة جوليتي الليبرالية، وتمهيد الظروف لسياسة استعمارية جديدة في المستعمرة الليبية توطئة للسياسية الفاشستية القادمة التي أنهت المقاومة الليبية برمتها.

السؤال ماذا خسر الليبيون الذين ربحوا معركة القرضابية؟

1 ـ أول خسارة تكبدها السنوسيون الذين انكفأوا بجهادهم في إقليم برقة، في عمليات كر وفر محدودة التأثير، وإن استمر حتى هدأت برقة تماما بإعدام المجاهد عمر المختار، فانحسر نفوذ السنوسيين المعنوي في الغرب والجنوب الليبي بظهور الزعامة المنافسة الجهوية مصراتة ممثلة في بروز رمضان السويحلي، والقبلية في بروز عبد النبي بلخير في بني وليد ـ ورفلة، وخسارة التبعيات السنوسية التي أبرز جهاديتها أحمد الشريف السنوسي في السنوات الأولى من الاحتلال الإيطالي كـ المحاميد بقيادة سوف المحمودي، وأولاد أبوسيف بقيادة محمد بن عبدالله البوسيفي، ومزدة بقيادة محمد عبدالله السني، وأولاد سليمان بقيادة عائلة سيف النصر.

2 ـ الخسارة الثانية مشروع الجمهورية الطرابلسية الذي أفشله التنافس الزعامي بين الجهوية ممثلة في زعامة مصراتة والقبلية ممثلة في زعامة بني وليد ـ ورفلة. هذا التربص للزعامة بدأت ملامحه المؤسفة على أرض معركة القرضابية، حيث انسحب شيخ ورفلة عبد النبي بلخير من بئر بنعيزار قبل القرضابية موهما العقيد مياني بأن المجاهدين سوف يهاجمون الحامية الإيطالية بقيادة قسطنطين بريجنيتي ويقومون باحتلال بني وليد. وبذلك تسنى له تنفيذ خطته في سحب قوته القبلية سليمة من المعركة في حالة الهزيمة أو الانتصار ليستثمرها مستقبلا في القضاء نهائيا على طموح غريمه رمضان السويحلي في زعامة الجهاد بالمنطقة الغربية بقتله بعد أن سلم نفسه طالبا صفح المقدرة، بل قطع رأسه وجلبه شماتة به إلى بني وليد يوم عيد الأضحى في 24 أغسطس من سنة 1920.

انتهت القرضابية ولم تنتهِ المعركة بين الليبيين أنفسهم إلى اليوم في ما أسماه الكاتب خليفة التليسي في كتابه «ما بعد القرضابية»، بعد هدنة الثماني عشرة سنة من الدولة الدستورية الملكية، الحقبة التي سادها التعقل والتسامح إزاء الماضي الاستعماري بكل آلامه، بزوال وهم الجهاد الملتبس بالممانعة حينا والامتثالية غالبا، واستبداله بحقيقة السياسة لتحقيق مكسب الاستقلال، وبناء معالم دولة ناهضة حديثة ومعتدلة السياسة وجدت لها مكانا مُقدرا في المحفل الدولي، حتى ترجع الأوهام من جديد بانقلاب 1 سبتمبر 1969 الذي نفذه الضباط صغار الرُتب، وجلهم من الريفيين والبدو، الذين تأهلت مداركهم بتعليمهم في مدارس دولة الاستقلال وكليتها العسكرية. ولكن نفسيتهم المُشبعة بالكراهية لم تتعلم التجاوز عن سلبيات الماضي والنظر إلى المستقبل الموعود بالخير والنماء. فرجعت الاحتفالات بمعارك جهاد قليلها فعلي وكثيرها اصطنعها الدكتاتور رأس النظام للمزايدة الديماغوجية بإبراز مشروعيته العسكرية الانقلابية إزاء الملكية السنوسية وتغذية نزعته الشعبوية القومجية المنافية للدولة الوطنية المدنية، واصطناع رمزية جهادية بديلة تبهت فيها صورة الزعامة الليبية التاريخية ورمزياتها «الدعوية الجهادية» ممثلة في السنوسية، والسياسية المدنية ممثلة في زعامات الجمهورية الطرابلسية، لتظهر زعامته الدستوبية والقبائلية باصطناع معارك من دون زعامات ولا قادة، أو التشويش على معارك كـ القرضابية صنعها قادة ليبيون مهما كانت منازعهم ودوافعهم، ليتم تهميش اسم القائد العسكري رمضان السويحلي ممثلا عن جهوية مصراتة، وليبرز اسم وهمي هو المغمور خميس أبومنيار بكنية قبيلته القذاذفة.

سرت المحتفلة اليوم بذكرى معركة القرضابية التي وقعت فيها منذ 100 عام، هي البلدة التي حررتها بالأمس القريب قوات البنيان المرصوص المصراتية من إمارة «داعش» المتوحشة، ما زالت تتنازعها الانقسامية القبائلية فرجان وهماملة وقذاذفة ينافسون المصارتة الممثلين بـ«معدان» الذين يترأس أحد أبنائهم عمادة البلدية، وتنفذ فيها ميليشيا الجيش الليبي فتزرع فيها مرتزقة «فاغنر» الروسية، بل تنقسم فيها مصراتة ذاتها بين حكومة وحدة وطنية تنافسها حكومة موازية مسماة من برلمان طبرق العاطل عن العمل.. فقط الساعي لتعطيل تصدير النفط والدولة وليبيا مدنية ديمقراطية مقبلة.