Atwasat

الأعـيـان

نورالدين خليفة النمر الخميس 21 أبريل 2022, 01:49 مساء
نورالدين خليفة النمر

تحقق أحد بنود بيان الـ 5 في اللجنة العسكرية 5 + 5 الذين بمثلون مُسمى القيادة العامة لميليشيات الجيش في الشرق الليبي، ويشرعنون إصداره تعليمات بالبدء في الإغلاق التدريجي لكل الموانيء والحقول النفطية وأنابيب الغاز في ليبيا، بهدف إقالة حكومة الوحدة الوطنية وتسليم السلطة إلى حكومة مجلس نواب طبرق الموازية .

تسمت الإقفالات النفطية الراهنة، كسابقاتها العبثية، باسم "شباب طبرق" حيث يقبع البرلمان العاطل عن العمل. الذين أغلقوا ميناء الحريقة النفطي، و "شباب منطقة الواحات" الذين أعلنوا قفل الحقول النفطية بالجنوب الشرقي، قبلهم مجموعة تطلق على نفسها ممثلون عن "مكونات اجتماعية وقبلية في الجنوب"، أعلنت إيقاف إنتاج وتصدير النفط من حقل الشرارة جنوب غرب ليبيا، وهو أكبر الحقول المنتجة في البلاد، والأسبق كانوا من تسموا بـ "أعيان الجنوب، والزويتية" التي يوجد بها ميناء نفطي في الشرق الليبي، والحبلٌ على الجرار. علامة يأس، ظاهرها هده المسميات الوهمية وباطنها مُسمى الأمر الواقع متمثلاً في قيادة الجيش ويده الطولى: مرتزقة "فاغنر" الروسية، وهدفها التلاعب بالمورد الوحيد لليبيا تغطيةً لأجندات متشابكة إقليمية ودولية.

كوننا نهتم بالضبط السوسيولوجي للمفاهيم والمصطلحات، فإننا نتوخي تنظيف مفهوم الأعيان من الالتباس عبر الصورة التي ظهر بها شراذم حرابية عاطلة، بعضهم ملثم الوجه وبهيئات مزرية. كما نتعرّض لما حاق بلفظة الأعيان، كغيرها من الألفاظ والمفاهيم، من التزييف مند العهد الدكتاتوري الساقط بالثورة الشعبية 2011، وبما تمكن تسميته بـ "الثورة المضادة" في العشرية الفوضوية للثورة الشعبية التي أعقبت انهياره .

برزت لفظة أعيان في ليبيا في العهد العثماني الثاني تعبيراً عن قوة اجتماعية وسياسية بما يشبه الطبقة. ترجع أصولها إلى عائلات قليلة مهاجرة من الجزيرة العربية ومُهجرة من الأندلس، وتكونت أغلب عوائلها الممتدة من الكولوغلية المهجنين من آباء أتراك وأمهات ليبيات، ولقد ميزت هده الشريحة نفسها بلقب الأعيان بدل لفظة المشائخ القبليين الذين تمتعوا بالإعفاءات من دفع الضرائب عام 1892. ولكونهم أصحاب ثروة بملكياتهم الفلاحية والعقارية، وممارستهم التجارة بين أفريقيا وأوروبا وأن أبناءهم الأجود تعليماً لكونهم درسوا في جامعي الزيتونة والأزهر. لهده الاعتبارات اكتسبب الأعيان وجاهةً من ولاة الدولة العثمانية الثانية للحفاظ على آخر ولاياتها في الشمال الأفريقي وبوابتها إلى أفريقيا المسلمة. فنُظر إلى الأعيان كحلفاء أساسيين في عملية بناء الإدارة المركزية في الإيالة الطرابلسية. ولقد وجد الأعيان بدورهم في الإدارة الجديدة فرصة للمحافظة على المصالح الاجتماعية والاقتصادية التي اكتسبوها بحكم مواقعهم في بيروقراطية الإيالة المحكومة مركزياً للمرّة الثانية من مقر الخلافة في إستانبول، والتي خلفت حكم السُلالة ذات الأصول الانكشارية المليّبة باسم القرمانلية.

سمح الاستعمار الفرنسي بصيغة الحماية، كما حدث في المغرب وتونس، باستمرارية النسق الباتريمونيالي للسلالة الحاكمة السابقه الذي نمّطه ماكس فيبر Max Weber في مصطلح السلطة أو الدولة الباتريمونيالية patrimonial state ، بينما في ليبيا تم القضاء على حكم السلالة القرمانلية بصيرورة طرابلس الغرب "ليبيا" للمرة الثانية إيالة تابعة مباشرة للباب العالي في استانبول، حيث تفسخت ضمنيا البيروقراطية التي احتوت بالوظيفة مكون "الأعيان" ذوي الوجاهة المجتمعية المنفصلين عن المجتمع، والموالين لشخص الحاكم وسلالته. فقد أحل الاستعمار الإيطالى بدلهم إدارته الاستعمارية المباشرة، وقد اضطرته المواجهة الجهادية الأولى أن يرتضي للأهالي قانونا أساسياً يتدبرون به أمورهم المحلية، الأمر الدي أفسح المجال لمكون الأعيان لأن يستمر ممثلاً في أبنائهم الذين كانوا مؤهلين للعمل في الإدارة العثمانية السابقة كعلماء إفتاء وقضاة وإداريين في المحاكم الشرعية ومعلمين في المدارس والكتاتيب وأئمة وشيوخ مساجد.

لقد تعاطى الأعيان كما مشائخ القبائل مع الاستعمار الإيطالي في حقبتيه الليبرالية والفاشستية بثنائية المُمانعة والامتثالية. الممانعون كعائلات الباروني في الجبل الغربي، وكعبار في غريان، وفرحات في الزاوية الغربية، والسويحلي في مصراتة، والكيخيا في بنغازي تم التنكيل بهم ونفيهم، والممتثلون كالقرمانلي والمنتصر في طرابلس والآبشات في الزاوية الغربية وبورخيص في غريان، وبن شعبان في زوارة، والقريتلي في بنغازي والحصادي في درنة ظلوا في مواقعهم وسطاء بين الإدارة الاستعمارية والأهالي.
العهد الملكي حافظ على مكونات المشيخة القبلية والأعيان والوجاهات المجتمعية ممانعة وممتثلة، بل تسامح حتى مع الذين تواطؤوا مع المستعمر وقادوا "بانداته" من المجندين الليبيين للقضاء على البؤر الجهادية الأخيرة. بل أسبغ علي كثيرهم منحة العضوية في مجلس الشيوخ. بروز النفط كعامل ريعي طاريء على المعاش البشري لم ترافقه توصيفات مدّققة من قبل المختصين الليبيين في السياسة والاجتماع وجُلّهم لم يكملوا بعد تأهليهم في جامعات الغرب. ولهدا استمرت بعض المفاهيم المجتمعية السابقة كـ "الأعيان" بدون تفسير دقيق، بل إن مفهوم الأعيان تحول إلى مصطلح "جامع غير محدد " تم بسرعة ضمه إلى قاموس الثقافة السياسية بدون أخذ وقت لسبر المتغيرات التي طرأت على وضعيات النُخب المحلية.

وعلى الأقل تسليط الضوء المفاهيمي حول تعقيده التاريخي بخلق التمييز، بين الأعيان الاجتماعيين الذين استمدوا مشروعيتهم من انتمائهم إلى العائلات ذات الأصول التقليدية، والممثلين ممن اشتغلوا في مهن حرة، أوتقلدوا وظائف في بيروقراطية الدولة كـ "الملاك العقاريين، ومدراء الشركات، ومدراء المصارف" والأعيان الجُدد ممن تمكن تسميتهم بالاقتصاديين من شريحة رجال الأعمال الذين أثروا من امتيازات المقاولة والنقل مع شركات النفط الأجنبية .

بأنقلاب سبتمبر 1969 الذي قاده ضباط الجيش ذوو الرُتب الصغيرة وكان جُلهم من الريفيين والبدو وعدد لا يتعدى أصبع اليد الواحدة من أبناء المدن، وحتى بعض الضباط تنكروا لأبائهم وأقربائهم من المشائخ والأعيان والوجهاء، بل رمي ببعضهم في السجون، وبعضهم من تبوأوا عضويات مجلسي الشيوخ والنواب وتقلدوا مناصب في العهد الملكي، تعرضوا للمحاكمة والتشهير في ما سميت بمحكمة الشعب. بل تمادى رأس النظام الدكتاتوري في إهانتهم وتهميشهم وضرب مصالحهم المالية بالتأميمات والمصادرات، واستبدل بهم أدواراً ووظائف اجتماعية ضباط الجيش ممن سموا بالأحرار ومن سموا بعناصر التنظيم المدني للانقلاب، والرفاق وأعضاء اللجان الثورية. بل أدمج من والاه منهم في الحقبة المتأخرة ماقبل الأنهيار في ما أسماه شكلياً بالفعاليات الاجتماعية، والذي أثبت واقع انتهاء هده الهياكل المجتمعية أنه في الثورة الشعبية 2011، لم تكن لبعضهم ممن استنجد بهم الدكتاتور أية فعالية في ثني من ثاروا علي نظامه من أبناء مناطقهم وقبائلهم. فأسقطوه وقتلوه ومثلوا به شرّ تمثيل في مشهد دموي أعطى للعالم صورة بدائية عن الليبيين دكتاتوراً ميتاً وكما يظهر اليوم شعباً يموت حياً بعده .