Atwasat

عركة

صالح الحاراتي الخميس 02 ديسمبر 2021, 10:49 صباحا
صالح الحاراتي

كنت خارجا للتو من مكتبة فى شارع الاستقلال ابحث عن كتاب بعينه..

لاحظت توقف السيارات.. وانتبهت لسائق يخرج رأسه من نافذة السياره وهو يصيح.. (اتركوهم أن شاء الله يقتلوا بعضهم ونفتكوا منهم).
وقفت مذهولا وأنا أرى أمامي شابا عشرينيا، شعره طويل وعلى شكل كرة "كاسكو" ملقى على الأرض وهو يقاوم ركلات ولكمات تأتيه من مجموعة من الشباب يحيطونه من كل جانب، يقاوم واقفا أحيانا ولكن ومع الركلات يطرحونه أرضا مرة تلو الأخرى حتى انهارت قواه فامسكوا به يجرونه إلى شارع جانبي ولكنه هرب منهم. لاحقوه ولم يدركوه وتواروا بعيدا عنى..

انتهى المشهد امامى.. انتبهت فوجدت بجانبى جمهورا من الناس كانوا يتفرجون ولم ألاحظ أي ذهول أو استغراب على وجوههم. بل منها من يبتسم أو يضحك وكأن الذي حدث أمامهم أمر مسلٍ ومضحك!! وسمعت تساؤلات عن سبب (العركة) ولكن لا أحد يملك الإجابة..!

حركة السيارات المتوقفة بدأت تتحرك ولم أرَ أي امتعاض من السائقين أو أسمع استخداما للمنبهات خلال توقفهم طيلة مدة (المعركة).. يبدو أن أصحاب السيارات القريبة من الحدث كانوا حريصين على عدم إزعاج الشباب المتقاتلين واكتفوا بالفرجة، حتى عندما اقتربت رأس المطروح أرضا من عجلة إحدى السيارات! قام قائدها بغلق زجاج النافذة ربما حرصا لكى لا يسمع بعض الألفاظ النابية..!

أكملت سيري متجها إلى ميدان الجزائر، وهناك تذكرت ما يقال "ربما ظلما" عن سمات فى شخصية الإنسان الجزائري من أن بها شيئا وفيرا من العنف والخشونة. ولكن فى تقديرى وبعد الذي رأيته للتو يبدو ذلك الانطباع أمر مبالغا فيه،.. فما رأيته فى المعركة منذ لحظات من العنف والخشونة يفند ذلك القول بشكل قاطع، وفعلا "الجمل ما يشوفش عوج رقبته".

وأنا أمضي فى طريقي تحت أقواس شارع الاستقلال، تذكرت المثل الشعبى (يتعارك مع ذبان خشمه) الذي كان يستخدم للتعبير عن الإنسان الغضوب المتوتر والدائم الاستعداد للشجار والعنف الذي يقال أنه يختص بـ "المدخنين فى شهر رمضان".! ولكن الاستعداد للغضب والعنف اصبح أمرا اعتياديا وسلوكا مألوفا.

توقف عقلى عن جلد الذات بحثا عن النصف الملآن ولكن وفى مثل هذا الموقف الذي شاهدته وغيره كثير، وعندما يلوح لنا جانب مظلم يجب أن نعترف بأن هناك بؤرة عنف بداخلنا، وأن العنف وسيلة مقبولة للتعبير عن الرأي.. لأننا نعيش واقعا يتأرجح بين ادعاء التحضر والمدنية من جهة وبين مستنقع من الوهم والعنف راكد فى تلافيف أدمغتنا... هناك الكثير من التفسيرات للعنف المنتشر وجميعها تقصر عن فهم سياقات العنف ودوافعه والقبول المجتمعي له، وتحوله مع الوقت إلى ظاهرة اعتيادية.

هناك قول مشهور لفرويد الذي وجد صعوبة فى تفسير مذابح الحرب العالمية الأولى، فافترض وجود غريزة الرغبة فى الموت داخل عقل الإنسان، ولكن هناك آراء كثيرة تذهب إلى ان العنف مكتسب وأن الدور الهام لانتشاره يعود الى التنشئة الاجتماعية وما يتغلغل فى العقول من الموروث الثقافي السائد الذى يحتاج للمراجعة والنقد.

فى مجتمعنا، لا مفر من المكاشفة والتأمل والتدبر والبحث فى الأسباب للخروج من وهدة العنف.. ولعله من المهم أن ننتبه إلى أن هناك أسبابا آنية منها تصاعد وتيرة العنف اللفظى المتبادل بين الأطراف السياسية المتصارعة، التي امتدت من المستوى النخبوي إلى جموع المواطنين. حيث يتم تشويه الخصوم بعيدا عن روح القبول والتسامح، واستخدام العنف اللفظي الذي تحيطه روح الغلبة حتى تصل الحالة لمنتهاها وتكون سبيلا للعنف المباشر خاصة مع انتشار السلاح وضغط الواقع وما يستجد به من الضغوط النفسية جراء أزمات الوقود والكهرباء وغيرها من الضغوط التى ترافقت مع الاستقطابات الحادة. كل ذلك ساهم فى تحول العنف إلى ممارسة منهجية وسلوك يومي وأداة أساسية من أدوات إدارة أي خلاف، وصرنا نرى الاشتباكات العنيفة على كل المستويات مع التقلص المستمر لمساحات التلاقي وغابت الروح الإنسانية أو الأخلاقية مع أي آخر مختلف .