Atwasat

أغلوطة رجل العكوز والنفق المعرفي

سالم العوكلي الثلاثاء 30 نوفمبر 2021, 09:06 صباحا
سالم العوكلي

في إطار كتاباتي السابقة عن بعض الخطابات التي تنطلق من فرضيات لم تُمتحن، أو من أحكام مسبقة دون التفات أو تفحص للمفاهيم المفضية إليها، كنت أبحث عن إصطلاح يمكن أن يحيط بهذا النمط من الكتابة أو إبداء الآراء المتسرعة، الذي وضعته مؤقنا تحت عنوان "المونولوج" وأثناء مشاهدتي لإحدى حلقات السلسلة الوثائقية "تحقيقات الكوارث الجوية برز اصطلاح مناسب لوصف هذه الظاهرة، حيث أوضحت التحقيقات بخصوص فقد الطيار لسيطرته على الطائرة لأنه كانت لديه معلومة أن الطائرة إذا ضربتها صاعقة جوية فسينفصل الطيار الآلي، ما جعل الكابتن المستسلم تماما لهذه الفكرة يستلم زمام التحكم اليدوي في الطائرة محاولا زيادة ارتفاعها لكي يحلق بها دورة أخرى قبل أن يهبط وأدى هذا الصراع بينه وبين الطيار الآلي إلى انحدار الطائرة رأسيا صوب مياه البحر لو لم تنقذها برمجة الطيار الآلي بارتفاع محدد جعلها ترتفع من جديد، وفي إطار تفسير سلوك كابتن الطائرة أوضح التقرير أنه دخل فيما يسمى النفق المعرفي أو نفق الإدراك الذي جعله لا يرى الإشارات التي تظهر على الشاشات أمامه ولا يسمع الأصوات المنبهة بأن الطيار الآلي لم ينفصل .

النفق المعرفي أو الإدراكي Cognitive tunneling كما أفادني الصديق نجيب الحصادي، يعني: "معالجة معلومات غاية في الأهمية لمهمة ما في غياب معلومات ثانوية قد تكون مهمة لهذه المهمة. وهو المسؤول عن الحوادث التي تسببها أخطاء بشرية. ويسمى أيضا العمى غير المقصود بسبب التركيز على أشياء وإغفال أخرى ما قد يجعلنا نتغاضى عن أوضح الحلول لمشاكلنا"

في مقالة الأستاذ رافد علي "الدولة المدنية والقبيلة" المنشورة بموقع بوابة الوسط، يبدأ بهذا العنوان الكبير رغم أن الالتباس يتضح من العنوان، عبر عطف الدولة المدنية على القبيلة، غير أن هذا العنوان الكبير ورغم التوطئة النظرية لمفهوم الدولة المدنية ومظهر العصبية، إلا أنه لا يلبث أن يدخل في نفق ضيق ليوصله إلى مشهد العكوز أمام البرلمان الليبي كإثبات على أن القبيلة تعرقل بناء الدولة المدنية، ما يؤدي إلى حالة من "العمى أو الصمم غير المقصود" الذي يجعلنا لا نرى الجوانب الأكثر أهمية في عرقلة بناء الدولة، بما فيها، على سبيل المثال، المائتا تابوت التي وضعت أمام مقر المؤتمر الوطني السابق، أو التفجيرات التي توجهت إلى مفوضية الانتخابات، ومقر هيأة صياغة الدستور، وقرب مجلس النواب في طبرق، وغيرها، ولم تكن للقبيلة علاقة بكل هذه الأعمال. كما يحيلنا هذا النفق مرة أخرى لأغلوطة رجل القش التي تتمثل في دحض رأي أو تفسير ظاهرة عبر أضعف صورها ونسيان الصورة العامة، ما يغريني بأن أقترح تسمية ليبية لهذه الأغلوطة: أغلوطة رجل العكوزر بدل رجل القش.

يبدأ حفر هذا النفق بداية من العنوان الذي يعطف الدولة المدنية على القبيلة باعتارها النقيض، اومصطلح (الدولة المدنية) ظهر في الغرب بدايات القرن التاسع عشر في مقابل الدولة الدينية أو سلطة الكنيسة، ولم يأخذ في حسبانه ذلك الوقت العصبيات الاجتماعية كنظام الإقطاع مثلا، لأن منتجي المصطلح يدركون أن النظام الاجتماعي الذي توجه صوبه عصر معظم فكر التنوير قابل للتغير والتكيف مع ما يطرأ على الدولة من متغيرات، بينما البنية الدينية الجامدة التي حكمت أوروبا قرونا سميت بقرون الظلام هي ما تشكل خطرا على المجتمع ونظام الدولة القابلة للتطور، باعتبارها منظومة إيمانية استاتيكية في مقابل ديناميكة المكونات الاجتماعية، ولهذا السبب القول بأن الخطر على الدولة المدنية يأتي من القبيلة، بقدر ما يقع في أغلوطة، بقدر ما ينأى بنا عن حقيقة أن الإسلام السياسي المضاد بعقيدته لجوهر الدولة المدنية هو الخطر فعلا، ولعل مشروع الدستور الذي أنجز في ليبيا تحت هيمنة هذا التيار يؤكد هذا الخطر عبر القاعدة التي ستبنى عليها الدولة.

يقول السيد رافد ما مفاده أن القبيلة حتى لو تغير شيوخها أو أعضاؤها فلن تتغير: "إن القول بأن القبيلة قد أصبحت اليوم غير القبيلة بالأمس، المحكومة من قبل شيخ جليل وغير متعلم، إذ يتولاها اليوم أصحاب شهادات عليا في مختلف العلوم والتخصصات، هو قول تعوزه الدقة، فليس هذا القول مؤشرا حقيقيا وعلميا على أن القبيلة قد تغيّرت، ولا هو ضمان أساسى على أن معضلة القبيلة مع المدنية قد زالت". وهذا حكم قطعي وغريب، فلا شيء متعلق بالأرض ساكن وحتى السكون في الفيزياء افتراض نظري فقط، لأن حتى الجماد يتغير مع الزمن، ما بالك باجتماع بشري يسعى بطبيعته للتكيف كي يستمر في الحياة، ويجزم بهذا الحكم دون حتى أن يراجع البيانات الصادرة عن اجتماعات القبائل التي تطالب بتفعيل المسار الديمقراطي والدولة المدنية. ومن جانب آخر يعيب على القبيلة العصبية، ثم بعد قليل يقول أنها تلجأ للعصبية في مواجهة عصبيات أخرى، لأنها وسيلة الشيخ "في التحشيد أمام العصبية العامة، وأمام العصبيات الاجتماعية الأخرى المنافسة". وهذا يدل على أن العصبية غير مرتبطة بالقبيلة بل نجدها أكثر تمثلا في الجماعات الدينية كوسيلة لعنف يسمونه العنف المقدس، مثلما تظهر العصبيات الناعمة بين المدن والولايات والأندية الرياضية في كل بقاع العام، وهي نفسها، العصبية البيضاء المتطرفة، التي كانت وراء فوز ترامب في الانتخابات وما تمخض عنها من اقتحام لمقر مجلس النواب الأمريكي وتخريبه بعد ثلاثة قرون من الديمقراطية.

الحاج بوعطيوة (رجل العكوز) ليس شيخ قبيلة ولا استخدم قبيلته لمضايقة مجلس النواب، بل كان مؤيدا من بعض الشبان في مواجهة ابن عمه رئيس مجلس النواب، وهو شخص مشاكس منذ فترة المؤتمرات الشعبية، وعكوزه استمرار لذلك العكوز الذي رفع في إحدى جلسات المؤتمر الشعبي في طبرق نفسها ليقول للحاضرين أن العوج في ليبيا من أعلى مثلما عوج العكوز من أعلى، ولم يكن بوعكوز ضد البرلمان ولكن كان مطلبه الوحيد عدم اعتماد مخرجات اتفاق الصخيرات، وأذكر وقتها أني هاجمت في أكثر من مقالة معرقلي هذا الاتفاق السياسي، والذي مع الوقت اتضح أنه كارثة تضاف إلى قانون العزل السياسي، ويبدو أن ذاك العكوز كان أبعد نظرا من قلمي.

سبق أن كتبت مرارا وبحدة، أن مجلس النواب اسوأ برلمان على وجه الأرض، لكنه في الواقع ليس أسوأ ما حدث في ليبيا، ونظلمه حين نختزله في صورة بوعكوز وننسى أنه ظل يمثل المسار (الديمقراطي) في ليبيا باعتباره الجسم الوحيد المنتخب، وأنه ألغى قانون العزل السياسي سيء الذكر، وأنه أصدر قانونا للعفو العام في سياق سعيه لمصالحة وطنية، والنفق المعرفي أو النفق الإدراكي هو ما يجعل الكثيرين لا يرون في نهايته سوى ولا يذكرون من بعيد أو قريب الميليشيات التي جاءت بمائتي تابوت امام مقر المؤتمر الوطني ووجهت أسلحتها الثقيلة والمتوسطة والخفيفية صوب مدخله من أجل أن يصدر قانون العزل السياسي ومن أجل أن يصدر القرار رقم 7 الذي يشرعن غزو مدينة لمدينة أخرى من أجل تصفية حساب عمره أكثر من قرن. وتمنيت لو أن عكاكيز طرابلس كلها وقفت أمام مقر المؤتمر الوطني ومنعت النواب من الدخول حتى لا تصدر هذه القوانين والقرارات التي وضعت البنية التحتية لكل الأزمات والحروب االلاحقة، والتي هي ما جعل مجلس النواب يلوذ بطبرق في أقصى الشرق قرب سكن بوعكوز كي يبتعد عن نفوذ هذه الميليشيات وعن التوابيت. وفي جميع الأحوال توجيه البوصلة أو الضوء صوب هذه المشاهد واعتبارها تهدد الدولة المدنية نهج اتخذه الإسلام السياسي ومؤسساته الإعلامية لإبعاد النظر عن أجندتهم المهددة فعلا للدولة المدنية نظريا وإجرائيا، وللأسف وقع بعض الكُتاب والنخب المناط بهم التصدي الفكري لهذا التيار، في كمين تشتيت الانتباه وأقصد الكتاب الذين خلفياتهم الفكرية من المفترض أن تكون ضد تسييس الدين واعتبارها المعركة الفكرية الأولى لهم. ولعل تطرق الكاتب عمر الككلي مرارا لمشروع الدستور والمادة السادسة (الدينية) الناسخة لكل مواد باب الحقوق يؤكد هذه الأولوية في معركتنا الثقافية مع هذا التيار المضاد بطبيعته لمفهوم (المدنية) الجوهري وللديمقراطية وحتى لمفهوم (الوطن) وهذا جزء أساسي من عقيدته الراسخة وما دخوله في إجراءات الدولة الديمقراطية إلا وسيلة براغماتية للتمكين أو كما قال منظر هذا التيار، أردوجان: الديمقراطية مجرد قطار تنزل منه حين يوصلك إلى المحطة.

النفق المعرفي في قيادة طائرة يؤدي إلى كارثة، وفي السياسي يؤدي إلى الاستبداد، وفي الدين يؤدي إلى الإرهاب، وفي الكتابة يؤدي إلى نوع من العمى أو الصمم، وهو شبيه بما يسمى سكير وير Scareware: شكل من أشكال البرمجيات الخبيثة التي تستخدم الهندسة الاجتماعية لإحداث صدمة، أو قلق، أو إدراك وجود تهديد من أجل التلاعب بالمستخدمين في شراء برامج غير مرغوب فيها.

وفي حالتنا، السلعة المراد تسويقها هي برنامج الإسلام السياسي الذي أراه شخصيا وراء كل ما حدث في ليبيا من أزمات، باعتباره تيارا منظما ومدعوما وله خيارات متعددة؛ من استخدام براغماتي لصندوق الاقتراع إلى استخدام أذرعه الإرهابية في فرض أجندته المضادة لمنطق التاريخ والتطور والترقي الإنساني.