Atwasat

القائد.. المُظفَّر

حمدي الحسيني الخميس 14 أكتوبر 2021, 10:57 صباحا
حمدي الحسيني

قبل أيام رحل عن عالمنا، واحد من أكثر المؤرخين المحدثين دقة ووطنية وعمقاً، إنه الدكتور قاسم عبده قاسم، صاحب الإسهام الأكاديمي الوفير في تحقيق عشرات الأبحاث والترجمات، ومما يُحسب للراحل أنه صاحب بصمة مميزة في دراسة الحملات الصليبية وعصور أوروبا المظلمة، فضلاً عن إشرافه على عديد رسائل الدكتوراه في التاريخ والتراث.

ولعل من الدراسات المهمة للمؤرخ الراحل، الذي أسعدني الحظ بأن أكون أحد تلاميذه، هي دراسته حول سيرة حياة السلطان المُظفَّر سيف الدين قطز، قاهر التتار وبطل معركة عين جالوت، وأهم قادة الدولة المملوكية التي حكمت المسلمين مئتين وسبع وستين عاماً (1250 -1517).

ومن المفارقات التاريخية المدهشة، أن هذه الدولة التي تأسَّست على أكتاف مجموعة من «العبيد» الذين جرى اختطافهم من بلادهم الأصلية بوسط آسيا وبلاد ما وراء النهر، ثم بيعهم في أسواق النخاسة في مصر والشام، هؤلاء العبيد نجحوا في تأسيس دولة تحمل اسم «المماليك»، استطاعت صد هجومين خطيرين: الأول؛ الغزو الصليبي المتمثل في حملة لويس التاسع ودحرهم في مدينة المنصورة بدلتا مصر، والثاني؛ هزيمة التتار في عين جالوت بفلسطين المحتلة.

ورغم أن التاريخ وأحداثه المتلاحقة لا تعرف كلمة «لو»؛ لكني أظن أنه لو نجحت إحدى هاتين الغزوتين، لكان مصير الحضارة الإسلامية والأمة العربية كلها، أصبح مختلفاً.

وشاء القدر أن يظهر بعض القيادات التاريخية الاستثنائية من أمثال السلطان قطز، الذي نجح في جمع شتات الأمة وتمكّن من دحر هذين الخطرين خلال عشر سنوات، فأنقذ المسلمين والعرب من الهلاك.

حينها قفز في ذهن المرء هذا السؤال الخيالي، هل يعيد التاريخ نفسه في هذا العصر مرة أخرى، ويأتي للأمة «مماليك» جدد يصدون عنها خطر تتار العصر الحديث من صهاينة وفرس وأتراك وإثيوبيين وغيرهم، ممن يتربصون بها من كل جانب؟

أين تكمُن الأزمة؟.. هل المشكلة هنا في البشر أم في الحكام أم كما قال كاتب دراسة السلطان قطز نفسه، أن السبب يرجع إلى «التشرذم السياسي وضيق الأفق والأنانية، الذي وصم حكام العالم الإسلامي منذ أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، ما أدى إلى نجاح الصليبيين في إقامة مملكة وثلاثة إمارات على الأرض العربية، فضلاً عن احتلال القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين».

لخَّص شيخ المؤرخين قاسم عبده قاسم حيرتنا وحاول الإجابة عن السؤال الصعب، حول السبب في تردي أحوال الأمة، عندما قال في نهاية دراسته المحكمة عن حياة القائد قطز: «النصر في عين جالوت أثبت أن مفهوم شرعية الحاكم يتبلور في اللحظات الصعبة التي تجسدها بطولته في دفاعه عن شرف الأمة وقت الخطر».

المؤرخ الراحل ظل يطوف عبر عشر سنوات فصلت بين الغزوتين الهمجيتين محللاً أسباب نجاح المسلمين في صد الخطرين الصليبي والتتري. وختم دراسته بما يشبه الحكمة التي تبلور رؤيته ونظرته للتاريخ عندما قال: «الناس في كل زمان ومكان قادرون على صنع النصر من رماد الهزيمة، وبناء الحضارة في خرائب العدوان، وزرع حدائق العلم والنور وسط ظلمات العدوان، إذا وجدوا من يحسن قيادتهم، ويضرب لهم المثل، ويتميز بالقدوة والشجاعة وإنكار الذات».

الظن أن ابتسامة القدر بقادة يتمتعون بالصفات التي حددها قاسم عبده قاسم سوف تضمن النصر المؤزر على كل الأخطار التي تحيط بأمتنا من كل اتجاه، فهل ننتظر أن تهدي لنا الأقدار ذلك القائد المُظفَّر؟.