Atwasat

المراحل الليبية والمقارنة المجحفة

سالم العوكلي الثلاثاء 28 سبتمبر 2021, 10:02 صباحا
سالم العوكلي

في مقالته "المستقبل لا ييأس من الانتظار" المنشورة ببواية المستقبل، وفي صدد حواره مع مقالتي السابقة "ليس في الجراب غير الدين" اتفق الصديق أحمد الفيتوري مع بعض ما ورد فيها مع احتراز مفاده "المشاركة في الرأي، لا تعني بالمرة المطابقة"، خصوصا فيما يتعلق بكون السيد إدريس السنوسي أو النظام الملكي عموما لم يستخدم الدين في سياق مقتضيات بناء الدولة الوطنية الأولى رغم أنه قادم من مرجعية دينية طاعنة في التاريخ والجغرافيا، أو "لم يكن ضمن أطروحة: ما في الجراب إلا الدين" الواردة في مقالة سابقة للفيتوري. ويدلل الفيتوري على اختلافه حول هذه المفارقة التي يقبلها شكلا لكن يختلف معها موضوعا، بما فحواه "سأشاركه الرأي، لكن بالأخذ في الاعتبار، الوشائج التي بين المملكة الليبية، والمملكة الأردنية الهاشمية، والمملكة المغربية. وأظن أننا لن نختلف على ذلك، فما وصف به إدريس السنوسي، يمكن أيضا أن يوصف به الملكان الحسن والحسين، فالحسن ملك المغرب أمير المؤمنين، وأما الحسين ملك الأردن، فسليل الأسرة الهاشمية، وجده رسول الله!.".

كما يشير إلى مقارنة أخرى ما بين النظم الملكية والنظم الجمهورية التي يسلم مبدئيا بـاختلاف بينها ظاهر، لكن ما "بحاجة لحفر، فتبيين، هو المشترك" خصوصا في المرحلة التي أعقبت التحرر والاستقلال، ما يمكن تحديدها بعقب الحرب العالمية الثانية، "وهو ما يبين أن الأنظمة، التي أعقبت الاستقلال، كانت حبلى بعسكرها الانقلابيين، وسواء أكانت ملكية كالعراق أو جمهورية مثلما سوريا. وعلى هذا فإدريس السنوسي تقريبا استقال بعد أن مهد البلاد لورثته، وكان في هذا قد مركز السلطة في شخصه، من جهة، ومن أخرى فهو سليل الفاتحين. وهكذا المشترك الرئيس أنها أنظمة سلطة مطلقة، وأن الشرعية تستمد من الدين قبل الدستور". وبدوري أتفق مع هذا التحليل شكلا وأختلف مع بعض تاويل الوقائع.
لا خلاف على أن السيد إدريس كان يحظى بسلطة روحية وسط شرائح اجتماعية في أنحاء من ليبيا على الأقل، وكان له معارضون من النخب في الغرب والشرق، البعض ينطلق من معارضة حادة لنظام الدولة الفيدرالي، والبعض من مشاعر قومية متأججة بدأت تستيقظ في المنطقة، وبحنكته السياسية أستطاع أن يوفق بين تناقضات كثيرة، محلية ودولية، في سردية الاستقلال الليبي.

ليس بالضروة أن تكون للسلطة الروحية خلفية دينية، وقد تنبع من سلوك أو سيرة الشخص ذاته، مثل شخصية غاندي على سبيل المثال التي لا ترتبط بمرجعية دينية محددة، فهو رجل القانون القادم من جنوب افريقيا اتخذ طريقا مختلفا لمقاومة الاحتلال، سماه اللاعنف، وقد اختاره في زمن كان العنف هو الوسيلة الوحيدة للتعامل بين الاحتلال والمقاومة، زهده ودعواه الراديكالية لسياسة اللاعنف والتسامح شكلت شخصيته وشكلت بالتالي نفوذه الروحي في مجتمعه، ومن جانب آخر شكلت شخصية مانديلا نوعا من الهالة الروحية، ليس بين السود من قومه فقط ولكنها طالت شرائح من البيض أيضا الذين أعطاهم درسا في القدرة على الاحتفاظ برباطة الجأش والذهاب إلى أبعد حد في المصالحة والتسامح، وهو أيضا لم تتحدر سلطته من خلفية دينية أو من سلالة، ربما أميل لوضع السيد إدريس (الشخصي) في هذا السياق، وليس السياق نفسه مع ملك المغرب أو الأردن فيما يخص عمله فوق الأرض منذ خروج الاحتلال الإيطالي من ليبيا وصولا إلى نهاية حكمه، دون أن نغفل المشترك الذي ذكره الفيتوري، والناتج عن بحث المجتمعات الخارجة من قرون من الوصاية الأجنبية على شرعية تلتف حولها ووتتوحد، وبالطبع دون أن ننسى دور السلالة والخلفية الدينية،

ولكن هل كانت تكفي؟ أما أن سيرته الشخصية أرست هذه السلطة الروحية؟ فهو قاد حركة مقاومة سياسية وعسكرية بكل الوسائل لعقود، ودخل في مغامرات سياسية لا تخلو من رهانات صعبة وتنازلات براغماتية، فضلا عما يتمتع به من حكمة سياسية وقدرة ذاتية على إدارة قيمة التسامح التي شكلت أرضية للمصالحة والشروع في حلم الاستقلال وبناء الدولة. أما فيما يخص المشترك بين النظام الملكي والجمهوري ثم الجماهيري، فلا أجد له أساسا إلا في إمكانية المقارنة بين خصائص مشتركة للماس والحديد، وفيما يخص طبيعة الدولة الملكية وأولوياتها بعد الاستقلال، أجدها أقرب إلى مشروع الحبيب بورقيبة في تونس، خصوصا فيما يتعلق بالتركيز على التعليم والتنمية البشرية والحفاظ على حيوية العمل النقابي والمدني والانفتاح على العالم.

لقد وضعت بين قوسين ـ يقول الفيتوري ـ "ما افترضت أنه مصطلح سالم العوكلي: (مسحة علمانية)، وذلك لأنه استخدمه هكذا، دون توضيح لدلالته أومصدره. فهل "مسحة" مقتلعة من سياق صوفي، أم من سياق زراعي، وهل "مسحة" هذه باقترانها بالعلمانية، علينا تاؤيلها أنها مرادف "خفة" مثلا؟ ...".

الحديث عن مسحة علمانية سيبدو غائما كما أشار الفيتوري، لكنه سياق وليد لحظته يبدو أنه تداعى من القاموس الشعري، لوصف هالة تحيط بالأداء السياسي وانعكساته الاجتماعية والثقافية فترة الملكية. وقبل أن أحاول التوضيح، لابد أن أشير إلى فهمي الإجرائي للعلمانية ولو باختزال، ففي العالم توجد عدة علمانيات وليس علمانية واحدة، ولا يمكن أن نقارن علمانية فرنسا بالولايات المتحدة بإنجلترا على سبيل المثال، كما أن هناك فرقا بين علمنة الدولة وعلمنة المجتمع. وبالتالي لا يمكن وصف ذاك النظام بكونه علمانيا بأي شكل من الأشكال مثلما وَصَفْت جورا الأدبيات السياسية الكثير من النظم العربية ما بعد الحرب العالمية الثانية بالنظم العلمانية، وخففتُ المغالاة في هذا الوصف بهذه المفردة المجازية، ولكن مازلت حتى الآن قادرا على الدفاع عنها حتى تنهار، دون أن نخرج هذا التوصيف عن طموحه الخجول صوب علمنة الدولة لا المجتمع، وهذه المقاربة يمكن تلمس ما يعززها في نص الدستور والمواد التي تشكل ضمانة للتعددية المذهبية والعرقية وباب الحريات.

لم يقل إدريس (الورع) أن (القرآن شريعة المجتمع) ولم يزين بآية (وأمرهم شورى بينهم) مقر السلطة التشريعية كما فعل النظام السابق والمؤتمر الوطني بعد فبراير. وحين يقول الملك المسمى وقتها لأدريان بيلت، أن ليبيا لها امتداد عاطفي ووجداني تجاه العرب والمسلمين لكن تربطها علاقات تاريخية بأوروبا يجب أن تحدد مصالحنا. كما يقول في خطابه بطرابلس 29 مايو 1951 :"توجد في وسطكم جماعات أجنبية في الماضي والحاضر، كنتم معروفين بطريقة احترامكم لهم وحماية مصالحهم في كل الحقول، وقامت، ولا تزال قائمة بينكم وبينها علاقات طيبة تسودها المودة المتبادلة". ودستر هذا الكلام عبر مواد تضمن حرية العقيدة، وعبر قانون الجنسية الليبية الذي لا يشترط الديانة الإسلامية". وبالتالي من الممكن أن نقول كان لتلك الدولة ملمح علماني، أو هي على طريق فصل الدين عن الدولة.

توجُّه الملكِ إدريس نحو الفضاء الأوربي واختياره للبكوش كرئيس وزراء رغم اعتراض الحاشية كان من باب أنه مثقف يؤمن بالأمة الليبية وبفضائها المتوسطي، وهذه الأطروحة هي التي كانت وراء استقالة أو إقالة البكوش بعد قترى قصيرة. كان التيار القومي في أوجّه، ولكن لم يواجه برفع وتيرة الخطاب الإسلامي كما فعلت بعض النظم أو التنظيمات، بل جادله بمفهوم الأمة وبالدولة الوطنية. دون أن نغفل الظاهرة الناصرية المتاخمة والمدوية في المنطقة، حيث كان ثمة علاقة جوار حذرة تجمع إدريس بناصر لكنها مفخخة، وكان من الصعب أن يستأنف الملك مشروعه فيما يخص الأمة الليبية بجوار هذا الضجيج الصادح، بل إن وجهة نظره الخاصة كانت دائما متوجسة من النظام الوراثي، وهذا ما أورده رئيس الوزراء السابق مصطفى بن حليم في ذكره لحوارات شخصية مع الملك الذي عبر عن أن النظام الوراثي بدعة أوجدها معاوية ولا تناسب طريقة تفكيره، وتحدث عن النظام الجمهوري كمنفذ للخروج من أزمة التوريث التي يبدو طريقها مسدودا.
أما المجتمع الليبي فكان شبيها بعديد المجتمعات العربية التي مرت بالظروف نفسها،

وتناغمَ مزاجه العام مع توجهات الدولة المدنية، خصوصا في المدن ومناخها الذي سبق أن وصفه الفيتوري في مقالته الأسبق، وعن عقد الستينيات خصوصا، حيث كان المزاج الروحي العام صوفيا وليس شعائريا كما نراه الآن من جانب ومصارعا على السلطة والتمكين من جانب آخر، مع تشكل إرهاصات طبقة وسطى وبرجوازية وطنية، إضافة إلى ما أسهمت به الجامعة الليبية؛ التي شهدت في داخلها صراعات فكرية مختلفة من قومية وماركسية ووجودية ودينية، من إدماج أجيال من التكنوقراط في سياسات الدولة وإداراتها، بينما تَقصّي الحركة الثقافية عبر عديد مشاريعها المهمة مثل التليسي والقويريَيْن، والنيهوم وسعيد المحروق وغيرهم، كانت في مجملها مشاريع منفتحة على الثقافة الإنسانية أو ناقدة بشدة لبنى التخلف في المجتمع، أو داعية لللائكية ليبية. وقد يجادل أحد بأن هذا المناخ قد يحدث في أي مجتمع وليس وثيق الصلة بمفهوم الدولة العلمانية، وهذا وجيه، لكن لا يمكن أن ننزع عنه سمة الخطاب التنويري الذي من المفترض أن يهيء الأرضية لبناء دولة حديثة تتعايش فيها القوميات والمذاهب والآراء المختلفة.