Atwasat

صناعة الطغاة.

رافد علي الخميس 09 سبتمبر 2021, 08:46 صباحا
رافد علي

يشهد التاريخ بان ما بات يُعرف اليوم بعلم النفس الاجتماعي قد استغل من قبل الطغاة في العالم من أجل السيطرة على شعوبهم، لأنه، كـ "علم"، ساهم في تعزيز فهم الطغاة لما يعرف بسيكولوجيا الجماهير، التي طرحها الفرنسي جوستاف لوبون، بعد سنوات طويلة من قيام الثورة الفرنسية، معاكساً في طرحه ذاك الفكرة الإيطالية التي كانت تعتقد بأن الجماهير بربرية ومتوحشة.

الفكر الإيطالي حينها، باعتقاده بوحشية الجماهير، وكأنه كان يفرغ القول المأثور: " ا تسأل الطاغي لماذا طغى، بل اسأل الناس لماذا ركعوا؟". من مضامين التفكيك والتحليل لظاهرة الطاغوت كما نعرفها الآن، بحيث أعطى الفكر حينها صورة همجية صرفة لحالة الرفض الأهلي للطاغية، فلا يليق بالناس، أو الرعية، إلا الاستكانة لأمر حاكمها، أو جلادها.

فالتمعن العلمي المحايد، من خلال دراسة وتحليل المجتمعات الحديثة كطرف، وظاهرة الطغيان كطرف آخر، تشير النتائج إلى أن الطغيان ليس وليد الفراغ، بل إنه وليد بيئة ملائمة يحيا وينتشر فيها، فالإيديولوجيا ليست سبباً مباشراً للطغيان، بل إنها، وباستقراء بسيط، جاءت لتكريس الطغيان عبر منحه غطاء الشرعية. فالنفس المهزومة والمتسلقة والانتهازية، في أي مجتمع، تعد عاملا مهما لقيام الطاغوت، وترسخ أركانه كنظام. فالطاغية يوجد في ظروف اجتماعية تكرس الخوف والجهل والتوجس والركون للغير، لأنها نفسية لا تحترم العمل والتفكير، فالجهل عنصر أساسي للطاغية في مجتمعه.

تاريخنا العربي زاخر بالطواغيت، خصوصاً في عصرنا الحديث، الذي ترتكز فيه الإدارة على الميديا وإذاعة المعلومة. كما ثقافتنا العربية تزخر بالمديح للسلطان أو الخليفة أو الحاكم، فمن الأبيات التي تحضرني، مع كتابة هذه السطور، أبيات من قصيدة طويلة لابن هانيء الأندلسي؛ يقول فيه:

أنت الذي كانت تبشرنا به في كتبها الأحباروالأخبار.
هذا البيت يوضح أن للشاعر، رغم أنه من أهل الأندلس، إلا أن نزعته لمذهب الإسماعيلية كانت واضحة، وهي من الأسباب التي أخرجته من إشبيلية نحو جنوب المتوسط، في رحلة عمره الباقية، إذ تقول بعض المصادر التاريخية أنه قُتل ببرقة في أيام المعز لدين الله الفاطمي.

سيل المديح والتأليه في التحليل العام لظاهرة الطغيان الحديث، يعد من ضمن أسباب صنع الطغاة، فالطاغية لا يولد طاغية، كما توضح الدراسات والتحاليل، ولكنها تعزز طفرتها في الروح البشرية لمن تتهيأ له ظروف السلطان من مناصب ونخبة ومطبلين وأدوات إكراه يمارسها الحاكم باسم الدولة.

شاهدت في الأيام القليلة الماضية، على وسائل التواصل الاجتماعي، أغنية تتغني بالسيد الدبيبة، ولا أخفي سراً، بأنها جعلتني مرتبكاً، فالرجل مازال في معمعة السياسة المعقدة بالبلاد، ونتائج برنامجه الذي أوصله للسلطة، لازالت في أطوارها الأولى والشائكة، فمن الأفضل أن لا ننجر لهكذا أساليب في الترويج لسياسيينا، حتى وإن كان السيد الدبيبة يفكر جدياً، الآن، في الترشح للاستحقاق المزمع عقده آخر هذا العام، سواء بذات طموح برنامجه الذي أوصله للرئاسة، أو بأضيق منه على المدى المنظور. فمديح الرجل ضمن حلقة زمنية محدودة وضيقة، وشديدة التعقيد، عوضاً عن أنها حالة تطبيل عشوائي يصب في سبيل خلق شعبية أكبر له ضد منافسيه، سابقاً وحاضراً، فهي كذلك تعد بادرة نحو خلق الطاغية، ونحن بلاد تعيش مؤسساتها في نطاق زمني منقضي الصلاحية منذ مدة ليست بالبسيطة، والوجوه فيها لازالت تصول وتجول حتى التو، دون انفراجات حقيقية تشعر الفرد بالطمأنينة وحسن الخدمات.

لقد كانت حالة التبجيل والمدح الإعلامي بأشكاله المختلفة من المآخذ على القذافي قبل فبراير وبعدها، ومن المدهش أن نجدنا الآن أمام ذات الشيء، وبلا أي تفكير. إنها ولا شك حالة تصب في خانة القول المعروف أن "الشعوب هي من تخلق طُغاتها".

لا شك في أن التطبيل العربي للحاكم ظاهرة لافتة في تاريخنا الحديث، رغم كل الخسائر والانكسارات، وحالة الانسداد الشديد نحو تحقيق إصلاح عادل، فنحن مصرون، كما يبدو، كثقافة وكنخب، على عدم استيعاب الدروس، وبعدم أخذ العبر، فالتطبيل مؤشر على أن النخب المثقفة قد دخلت في حيز الانتفاع من صنبور يدلف المنافع التي بيد الحاكم بأن يمنحها هبات وعطايا، وهي بذات اللحظة تكون مؤشرا على شبهة الفساد، وتردي حالة الوصول للعامة عبر نتائج ملموسة وحقيقية، فيتم اللجوء لأسلوب الضخ لحواس الفرد والمجتمع، عبر الميديا عموماً، صور ومفردات وموسيقى من شأنها التكرار الهادف لترسيخ فكرة تخدم الحاكم وسلطانه.

علينا أن نسعى اليوم، كليبيين، لاسترداد وطننا من خلال زرعه في وجداننا، الذي يوصف في أحيان كثيرة بأنه مشوش، بسبب نهج إفراغ الذات الليبية. فليبيا كوطن، بكل محنتها، من الجلي جداً أنها ليست لصيقة بوجداننا مقارنة مع شعوب أخرى بالمنطقة على الأقل، وأن انصهارها "ليبيا" في شخص، حكم وانتهى، كانت عواقبه وخيمة علينا كما تردد المعارضة قبلاً، واليوم أيضاً. فعلى القائمين على الميديا بالبلاد الآن، في اعتقادي، أن يتداركوا الأمر، فربط الحلول، المستعجلة والآجلة، بشخصية فرد واحد، وفي بلاد كليبيا، تتوزع وتتنوع فيها الإشكاليات، وعلى كافة المستويات، كلام لا يستوعبه عاقل، ولا يؤمن به راشد. فمشكلتنا عويصة، وعلي النخب أن تتحلى بالاحترافية للابتعاد عن التأليه والتبجيل في صميم المحنة الراهنة، بدلاً من الاصتطاف وراء المصلحة الضيقة والمنفعة الأنانية، طالما أنها تريد فعلاً السعي لخلق وطن يحيا في ضمير ووجدان "أولاد البلاد"، لا مجرد رقعة أرض في مجرد خارطة، تفصح عن الكثير من خبايا ثقافة مأزومة بنفسها أولاً، وضمن تراكمات استبداد وقبيلة وجهوية ومناطقية لم نقف يوماً، كليبيين، بشجاعة لمعالجتها، والتخلص منها كعقبات في بناء وطن للجميع، يضمن الاختلاف ويعزز الحقوق ويحترم القانون وعقلية الناس، فعادة، أو أسلوب التطبيل المفضوح، لازال شاهد عيان على أوطاننا بالمنطقة برمتها، بما فيها من إحباطات وركود وتأليه وتخلف وجهل.