Atwasat

نظرة في سنابل طالبان

رافد علي الخميس 26 أغسطس 2021, 09:33 صباحا
رافد علي

اكتسحت حركة طالبان الأخبار العالمية بدخولها للعاصمة الأفغانية كابول في زمن قياسي أدهش العديد من المراقبين، وأزعج للعديد الآخر الذى كان يؤمن بأن الفترة المحددة لصمود القوات الحكومية لن تقل عن ثلاثة أشهر في أقل تقدير، ففي أيام معدودة، كما شاهدنا جميعاً، عادت الحركة لبسط سيطرتها بعد سنوات من الوجود الأمريكي.

اختلفت التحاليل، وتنوعت الآراء حول طالبان هذه المرة، وسط ضغط إعلامي أذاع صور الهلع الأهلي والقلق الدبلوماسي عما ستكون عليه طالبان هذه المرة، رغم مسارعة الحركة بإرسال رسائل وإشارات طمأنة للعالم بأنها تدخل القصر الرئاسي بثوب جديد، فعقدت مؤتمراً صحفياً مصوراً كسابقة في تاريخها، وأصدرت بيانات تحاول أن تكشف فيها أن لها وجهاً مغايراً عما عُرف عنها تحت قيادة الملا عمر الذي كان أول زعيم سُني يصعد سدة الحكم، في سابقة لازالت مثيرة بكل أبعادها السياسية والدينية والفكرية.

كان الباكستاني المولوي حفيظ الله حقاني قد ألف كتاباً علي ضوء تسمية الملا عمر أميراً للمؤمنين بأفغانستان بعنوان: طالبان من حلم المُلا إلي إمارة المؤمنين، إذ يرى حفيظ أن حلم طالبان لم يكن خلق إمارة حين انطلاقها في المشهد الأفغاني، فأمام الفوضي العارمة بالبلاد بسبب القتال بين رفاق الحرب، سعت الحركة لتأمين مجتمعها الضيق من الإجرام والفساد والانحلال وسفك الدماء، إلا أنها سرعان ما استجابت تحت دواعي الروابط الاجتماعية، كالقبيلة وصلة الرحم، لطلبات مناطق أخرى لحفظ الأمن فيها، الأمر الذي جرها للصدام مع أرباب المشهد في حرب طاحنة انتهت بدخولها إلى كابل. فالعوامل الداخلية أحياناً كثيرة كانت تدعوها لكبح جماح الشاه مسعود، الحاكم الفعلي لكابل حينها، والذي كان يستفز باكستان إذ تحالف مع الهند، وحال دونها ودون أن تتمتع إسلام آباد بجار مسالم يعد عمقاً استراتيجياً لها في نزاعها مع دلهي، لذا كان دخول طالبان لكابل حينها مباركاً في باكستان التي كانت أول المعترفين بطالبان كحكومة على رأسها أمير للمؤمنين.

بغض النظر عن أصول نشأت طالبان كحركة، سواء كانت نشأة تلقائية من طلبة دين وشيوخهم، أو أنها وجدت لعوامل تدخل خارجي، يبقى أقوى تصريح بخصوص ميلادها ذاك الذي تفضل به حميد جل الرئيس الأسبق للاستخبارات الباكستانية في18اكتوبر 1995 بندوة لمعهد الدراسات السياسية بإسلام آباد إذ قال: "إن سياسة باكستان في أفغانستان تديرها الولايات المتحدة، وأن طالبان قد زرعت زرعاً في أفغانستان". وبعيداً عن السياسة وعالم الاستخبارات، فإن نظرة بسيطة من الناحية السوسيولوجية تمكن من القول أن وجود الطالبان قد تم عبر تفاعل وتكامل عوامل الدين والعصبية والمكان التي شكلت معاً توليفة لصناعة التغيير الاجتماعي والسياسي كما يتحدث ابن خلدون. فالدعوة الدينية من غير العصبية لا تتم حتى للانبياء كما تشير سورة الانفال بالآية 63.

فالمجتمع الأفغاني مجتمع قبلي متنوع الأعراق، وشعب متدين بطبعه، وتعد قبيلة البشتون أكبرها جميعاً، إذ تشكل ما يفوق ال41%، وهي القبيلة التي ظهرت فيها الطالبان قبل أن تمتد كحرحة وتحتضن عناصر من قبائل أخرى تحت غطاء الدعوة، فالأفغان مجتمع يحترم بشكل عميق شيوخ الدين وعلماءه، بل إن ويلات الحرب الأهلية من دم وفساد وفوضي وتناحر أعمى جعلت المواطن الأفغاني يتمسك بأي أمل للخلاص من المأزق الحياتي الذي وجد نفسه فيه بسبب أرباب المشهد المتناحر حينها بين حكمتيار والآغا وشاه مسعود وغيرهم من المليشيات بقصد حوز السلطة، في حين أن المواطن يذوق العذابات.

طالبان كحركة دينية تنتمي للمدرسة الديوبندية التي تأسست في القرن 19 بمدينة ديوبند الهندية حيث الجامعة الإسلامية، والمعروفة بأزهر الهند التي قامت عام 1283 هجري، وكان الشيخ محمد طيب قاري قد أبرز الفكر الطالباني في كتابه "مسلك علماء ديوبند" عام 1979 مبيناً أنهم من أهل السنه والجماعة، ومبرزا "السنابل السبع" التي تحكم أدبيات الحركة وهي: 1-العلم والشريعة-2- العقيدة الماتريدية الأشعرية وهي مبنية على أفكار العالم الحنفي أبومنصور الماتريدي الذي عاش في سمرقند، وكان صاحب توجه فقهي دعوي لحفظ السنة متماهياً بدوره هذا بمنطقة ما وراء النهر، مع دور الشيخ الأشعري بالشرق بعد الانقلاب على المعتزلة تحت حكم الخليفة المتوكل. التراجم لا تعطي الكثير عن الشيخ الماتريدي، فقد شرعت الكتابة عنه عربياً في السبعينيات كما يقول بلقاسم الغالي في كتابه "ابومنصور الماتريدي حياته آراؤه العقدية" إذ يقول الغالي: "والباحث في شئون الماتريدي ينبغي أن لا يغفل منطلق هذه المدرسة، فهي تبدأ بأبي حنفية النعمان مؤلف كتاب (العالم والمتعلم) و(الفقه الأبسط) و (رسالة إلى عثمان البتي)...".

أعتقد أن جمع الماتريدية والأشعرية في سنابل طالبان كحركة دينية أساساً ببلاد أغلب شعبها يتبع المذهب الحنفي يأتي لأجل مناهضة حركة الثنوية الإلحادية في ذلك الزمن، فالغالي يبيّن في كتابه المذكور أعلاه أن هناك حالة من عدم الاتفاق حول توافق المدرستين، فالبياضي عد خمسين قضية اختلاف بين الماتريدية والأشاعرة، والشيخ زادة اعتبرها أربعين فقرة اختلاف، وأبو عذبة حددها بثلاث عشرة نقطة.

السنبلة الثالثة هي التقليد الفقهي وهي أن طالبان تتبع تقليد السلف لكبح الاجتهاد التأويلي، مما دفع البعض لنقد طالبان إذ اعتبروها فرقة تتبنى التوجهات الأكثر تشدداً، كما هو جلي في قضايا الحريات والفنون والمرأة والمعاصرة عموماً. السنبلة الرابعة هي مجابهة الزيغ والضلال، وهي ما يقابل في التوجه السلفي المعروف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفتح باب الحسبة لمعاقبة أي مخالف. السنبلة الخامسة التمسك بالسنة. السادسة الجامعية والجماعية. أما السابعة فهي اتباع الطريقة الإحسانية وهي طريقة تربوية صوفية تشتمل على الذوق والجمال والزهد. فطالبان وقادتهم كان يبدو عليهم الزهد والتقشف بشكل مربك حسب المشاهد التي نراها على الميديا عموماً، فطالبان وقادتهم حتى بعد وصولهم للسلطة في الألفية الماضية لم يغيروا من نمط حياتهم البسيط عموماً، وهذا يذكرنا بمقالة الأستاذ فهمي هويدي عن طالبان "جند الله في المعركة الغلط" إذ اعتبر طالبان أنهم انتقلوا من مقاعد الدراسة إلى ميادين الجهاد فإلى كراسي السلطة دون مراحل إنتقالية.

طالبان بعد حرب بوش الابن عليها دُحرت للجبال وللمناطق النائية، وتوالى علي رأسها رجلان بعد الملا عمر رافعة شعار طرد المستعمر كبديل عن توجهاتها الدينية في أن يكون شيوخها أوصياء على الشريعة وعلى أخلاق المجتمع وتوجهاته، فهل طالبان اليوم مختلفة؟!

بغض النظر عن البراغماتية السياسية التي تمارسها طالبان منذ دخولها الأخير لكابول واتخاذها خطوات طمأنة للعالم، كاستخدام التقنية الحديثة للتواصل مع العالم، وقيامها بزيارات لدول الجوار كإيران وروسيا والصين، وإصدارها بيانات تنم عن انفتاح تجاه قضايا تُعد عويصة للتيار المحافظ، كالحريات الدينية والمدنية وقضايا المرأة والسماح بالتصوير، كلها تدابير من حيث المبدأ إشارات إلى أنها ليست طالبان الملا عمر، فليس من السهل اعتبارها تغيرت. فالحركة كغيرها في التيار الإسلامي لا تعلن عن تحقيق مراجعات فكرية لمرجعياتها بسبب اعتبارها من القدسيات. فالتيار الإسلامي عموماً، كغيره من تيارات المنطقة، لا يتبنى الشفافية ليرفع بياناً يشرح فيه أحواله بما يوحي بوجود روح نقدية مفتوحة ضمن صفوفه، ربما مرد ذلك للهلع من الظهور بموقف الضعيف، أو هو المكابرة بالاعتراف بالخطأ، أو الرعب من الاعتقاد بأن انقلاباً داخلياً يضرب الزعامة. في كل الأحوال يصعب الجزم بأن طالبان تغيّرت لأن المدرسة الديوبندية لازالت ثابتة علي أصولها رغم عدم المركزية فيها، ولانعدام القيادية بين فروعها، إلا أن تبدلاً في ثنايا روح كيان محافظ جداً كطالبان يصعب التصديق بأنه وقع، فأغلب الظن أنه بريق السلطة وترتيبات واشنطن ضد طريق الحرير الصيني