Atwasat

«جار.. يا جار، يا جار»

محمد عقيلة العمامي الإثنين 23 أغسطس 2021, 11:56 صباحا
محمد عقيلة العمامي

كان قسم اللغة الإنجليزية، في الجامعة الليبية، يديره ويشرف عليه أساتذة بريطانيون، متخصصون في اللغة الإنجليزية وآدابها، بموجب بروتوكول متفق عليه بين الحكومتين، الليبية والبريطانية. كان القسم هو الذي يعد مناهج السنة. وظل كذلك لسنتين أو ثلاث إلى ما بعد سبتمبر 69. دُفعتي، وكذلك الدفعات التي سبقتني، دَرستْ عددا من روايات وأشعار أدباء بريطانيين كبار مثل تشارلز ديكنز، جون كيتس، جين أوستن، سومرست موم، وبالطبع شكسبير وما زلت أتذكر تشوقنا الأسبوعي لقراء الدفعة الجماعية، لرواية (تيس ذا دوبرفيل) تحفة الروائي توماس هاردي.

لكن لم يمّر علىِ كاتب موسوعي، في الدين والحياة، صحفي وشاعر له روايات عديدة، بوليسية وترجمات وقصص وأشعار ومقالات ومسرحيات، وصف بأنه: «أسطوري في نشاطه وحماسته وأيضا في تناقضاته وإنتاجه. له تسعون كتابا، عدا عشرات المقدمات، التي قدم بها كتب الآخرين». اسمه (جلبرت كيث تشسترتون).

ويبدو أنه كان مثل كثير من كتاب نجباء، في الدنيا كلها، لم ينالوا الشهرة التي يستحقونها. ففي الثقافات كلها يبرز بعض كتابها أو شعرائها، أو مفكريها وتطغى شهرتهم على الآخرين من جيلهم. ومثل هذا الحال حدث عندنا في ستينيات القرن الماضي، عندما برز الأديب صادق النيهوم، ولم يبق في دائرة الضوء الإعلامي حينها سوى قلة، فلقد طغى وهج حضوره، وأسلوبه الجديد، وصوره البليغة المضحكة المحزنة على كتاب وأدباء آخرين، لم ننتبه حينها إلى إمكانياتهم ولغتهم وجمال أسلوبهم. وأعترف أنني لم انتبه إلى بلاغة وإمكانيات كتاب كثيرين من جيل النيهوم إلاّ من بعد أن قرأت لهم في مراحل متقدمة من مسيرتي.

لم أنتبه إلى سلاسة وجمال ووضوح سرد أستاذنا الكبير مهدي القاجيجي في حينه، ولعل من شدني كثيرا بأسلوبه ولغته الراحل عبدالكريم الدناع، وهو أحد معاصري صادق النيهوم. ولم تشدني كتابات الأديب الأستاذ الكبير أمين مازن، وعمق كتابات الدكتور على فهمي خشيم، الأدبية الثرية، الت كانت تتناوب في صحيفة الحقيقة مع صادق النيهوم وخليفة الفاخري، ورشاد الهوني، وأعترف أن كتابات الأستاذ أمين مازن، لم تأسرني في حينها، لم أنتبه إلى ثقافته العربية الواسعة وأسلوبه إلاّ بعدما قرأت بتمعن «مساربه» البديعة.

كثيرون طغت عليهم كتابات النيهوم، التي شطح البعض، وأعتبر أن كتابات الفاخري محاكاة للنيهوم، وهذا ما دعاني لإصدار كتابي «قطعان الكلمات المضيئة» الذي أبرزنا فيه الأسلوبين واختلافهما سردا وأسلوبا، ولغة. الكتاب الكبار تمكنوا من البقاء والاستمرار أثناء انتشار «الظاهرة النيهومية»، مثلما اسماها الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه، أما الذين أخذوا به واستمروا يقلدونه لم يستمروا طويلا.

أعترف أنني لم أقرأ من قبل شيئا للكاتب (تشسترتون) أو دكتور جونسون القرن العشرين، إلا بعد أن صادفتني فقرة من كتاباته وقفت عندها، وهي التي جعلتني أبحث عن أعماله. الفقرة تقول: «.. ليس هناك شيء أشد خطرا، وإثارة من سلامة العقل، إنه أكثر درامية من أن تكون مجنونا»، وأحسست أنه يتوافق مع بيت المتنبي الذي يقول: «ذو العقل يشقى في النعيم بعقله** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم»، ومما كتبه ( تشسترتون) وأعجبني كثيرا فقرة يتحدث فيها عن رؤية تتفق مع الكتب السماوية عن الجار، يقول: «إننا نصنع أصدقاءنا، تماما مثلما نصنع أعداءنا. ولكن الله هو الذي يصنع لنا جيراننا..» ويستطرد موضحا أن الديانات القديمة توصى بحسن معاملة الجار، وتقول ليس على المرء واجب نحو الإنسانية، وإنما واجبه نحو جاره، وينبغي أن تكون علاقته به، ومعاملات مبهجة تصنع السرور، ونحب جارنا لأنه هناك موجود بجوارنا، وهو في الواقع نموذج إنساني متاح لنا طوال الوقت. لو أننا تأملنا حرص الديانات، على حسن معاملة الجار، لانتبهنا إلى أنها سوف تمتد من جار إلى الآخر فتعم المحبة الشارع كله ثم المدينة وصولا إلى الإنسانية كافة».

كثيرة هي كتاباته وكثيرة هي الفقرات التي مهرتها، كعادتي، بأقلام ملونة، منها الفقرة السابقة، وهي التي جعلتني أعود بذاكرتي وأتذكر طرائف وحكما، ومواقف إنسانية رائعة، عشتها مع جيراني، استعرضها، بين حين وآخر فهي إن لم أجد فيها حكمة أو طرفة، هي بالتأكيد مسلية.

أتذكر الرايس محمد محمود قمر، جارنا بشارع نبوس وأحد رواد (قهوة سي عقيلة) الذي كان من أبرز عمال ميناء بنغازي، متين البنية، اجتماعي، باسم ودود. أذكر وأنا صبي أمسك ببطيخة، هي التي نسميها في بنغازي «دلاعة» من محل سي محمد الصغير الملاصق لمكتبة الشعالي الخراز في ناصية شارع سنيدل، وتفحصها بطبطته عليها وقال له: «حمراء! أراهنك على ذلك!» ثم وضعها على الميزان. رفعها بيده اليسرى، وقال لـ (سي محمد الصغير): «لو ثقبتها، هكذا بسبابتي، تكون لي مجانا، وإن لم أنجح أدفع ثمنها..» ضحك سي محمد الصغير، وقال: «موافق!» وفعلا تمكن من ايلاج سبابته مباشرة في الدلاعة ثاقبا قشرتها السميكة ثم رفعها بسبابته. أنا انبهرت و ضحك الصغير، وقال له: «صحتين عليك وعلى أطفالك» أخذ سي محمد الدلاعة وعند ناصية قهوة سي عقيلة، استل مطواه الصغيرة وقسمها أبراجا ووزعها على الحاضرين، وعاد إلى «سي الصغير» ببرج منها، وابتاع منه دلاعة أخرى، ليأخذها إلى بيته. سأله سي الصغير: ولماذا لم تأخذ دلاعتك التي ربحتها، وتحتفظ بنقودك؟» ضحك وقال: «بيتي لن تدخله بذرة دلاعة إلاّ بالحلال!» رحم الله سي محمد محمود قمر، وذريته المباركة.