أقام انقلابيو سبتمبر69 في ليبيا، غبّ استلائهم العسكري على السلطة، محكمة أسموها محكمة الشعب، لمحاكمة رجال العهد البائد، ما نعتوا به العهد الملكي، ومن ضمنهم رجال الصحافة. وقد اعتبروا أحد الصحفيين مفسدا للشعب، لكتابته افتتاحيات تمجد 24 ديسمبر، ذكرى استقلال البلاد. كان الدفاع، الذي تقدم به ذلكم الصحفي، مخافة تلك السلطة القضائية العسكرية الغاشمة، أنه كتب افتتاحية واحدة، كان يكرر نشرها كل مرة، في يوم 24 ديسمبر!. ما تحول عند أولئك الانقلابيين، إلى استقلال مزيف، ومن يحتفل به أو يمجده، يروج للتزييف.
هذه البدعة، باعتبار 24 ديسمبر ذكرى التزييف، في تقديري تشي بالعقلية الفاشية، ما تجبّ ما قبلها. وقد فعلت ذلك، مع دستور البلاد، وعلمه، ونشيده الوطني، وكل تاريخ العهد الملكي، ما جاؤوا لإبادته وإدانته، ونزع أي رمزية وطنية، وكل أيقونات حاملة لمعنى الاستقلال.
طبعا حلوا مجلس النواب، واعتبر كبيرهم في نظرية عالمية ثالثة! الانتخابات تزييفا للديمقراطية. وتاجر السبتمبريون بوطنيتهم السوبر والصافية، واعتبروا من قبلهم غير وطنيين. فأمست الوطنية بضاعة، أو لباسا على مقاسهم، وقد اتبعهم في ذلك كثر، يمنحون صكوك الغفران الوطنية لمن شاؤوا، ويُخونون من لا يعجبهم، وفي هذا لا يعجبهم العجب، وأنهم كتؤامهم الإسلام السياسي ما يُكفر ما يخالفه.
هكذا 24 ديسمبر طوح به، واعتبر يوم الانقلاب، ما كُني بالفاتح العظيم، يوم ميلاد ليبيا.
24 ديسمبر استعاد شيئا من مكانته، عقب ثورة 17 فبراير 2011م، وعادت البلاد إلى النشيد الوطني وعلم الاستقلال، ما لم يضمه دستور، لجنة الستين المنتخبة كعلم وطني. مرة ثانية بدأت مسألة الوطنية على الميزان، ولما دخلت البلاد في حرب أهلية، شكك في الوطن وتوابعه، فانزاح 24 ديسمبر إلى الخلف. وكأنما لا استقلال لبلاد تحت السلاح، فمن طرفة ما حدث، أن ثوار فبراير، حين كانوا يقضون على نفوذ القذافي، في مدينة ما بالبلاد، كانوا يرفعون أعلام الاستقلال، ويدعونها مدينة محررة.
إذا كانت البلاد أي بلاد، في زمن الإمبراطوريات، أو زمن الدولة الحديثة الوطنية، تحتاج إلى أيقونات كالعلم، فإن الدولة الحديثة لها أيضا يوم ميلاد، ما في حكم يوم الاستقلال. وعلى ذلك فإن 24 ديسمبر، غيب غبّ انقلاب أول سبتمبر 1969م، وعاد من الغياب، بعد ثورة شابها ما شابها بالتحارب الأهلي، ما يراد إنهاؤه بالذهاب بالسلام، لاستعادة دولة الاستقلال.
عاد 24 ديسمبر 2021م كموعد للانتخابات، ما في تقدير الخصوم ومؤيديهم، وكذلك حزب التكايا، يوم الخلاص، السبيل لمن استطاع اليه سبيلا، وما ليس سبيلا غيره.
24 ديسمبر اختاره من اختاره، كيوم الانتخابات الليبية، لرفع الهمم واستدعاء التاريخ، فالاستنجاد به لجمع المتخاصمين حول الصندوق، ما بدا كتعويذة سحرية، تجبّ ما قبلها، والباب المفتوح لأفق، وإن كان المجهول، فإنه خير من المعلوم. فالقفز من المعلوم بعلله الجمة نحو المجهول، حيث إن الانتخابات تأتي إلى حد ما بإدارة سياسية/ تشريعية وتنفيذية، تستمد شرعيتها من الصندوق، التعويذة السحرية، المتفق علي أنها كـ "الكي" الدواء الأخير، دواء كل علل، لا دواء لها متفقا عليه غير الصندوق.
وإن جرب الليبيون هذا، مرة واثنين ولم ينجح، فإن الثالثة ثابتة، لأن المساهم الرئيس، في فشل التجربتين السابقتين، التسابق الدولي الإقليمي على إفشالهما. ثم الطموح المبالغ فيه، بأن تكون البلاد ديمقراطية بين ليلة وضحاها. وكذلك العمل القوي والحاسم، من قبل أعداء الديمقراطية، لإفشال أية خطوة في الاتجاه، ولو كانت خطوة أولى في مسيرة الألف ميل. على ذلك فالانتخابات الحالية: المستحيل، حين أضحت الواقعية مستحيلا. وحين كان النفوذ والمصالح، الدولية الإقليمية متضاربة، على الكرة، من الأكسجين حتى الفيروس، فغدت ليبيا السهل الممتنع، لحلحلة المسائل ما تزداد تعقيدا، كلما أمكن الحلّ.
24 ديسمبر 1951م يوم استقلال ليبيا، في المرة الأولى الحرب الكبرى الثانية، المساهم الرئيس في إنجاح حرب الاستعادة، فكان الاستقلال بقرار الأمم المتحدة، حتى أني أكتب: ليبيا دولة الأمم المتحدة. 24 ديسمبر 2021م يوم استقلال ليبيا الثاني، والمساهم الرئيس للمرة الثانية، الدول الكبرى، ما تخوض حرب نفوذ ومصالح في المنطقة، والأمم المتحدة واضع خارطة الطريق. فهل ينجح الليبيون مرة ثانية في استعادة بلادهم، من فم الغضنفر؟.
تعليقات