منذ فترة طويلة وأنا أبحث عن مواقف أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور الذين قاطعوا، أو رفضوا مشروعها، لمحاولة فهم أسباب مقاطعتهم، أو رفضهم، وفحص مواقفهم؟ وهل هي واحدة أو متناقضة؟ ذلك أن قناعتي ومخاوفي بأن مشروع الدستور الحالي قد يكون آخر محاولة للوصول إلى مشروع دستور ديمقراطي لليبيا الواحدة.
رغم أن الإعلان الدستوري وضع ضوابط معقدة جدا للمسار الدستوري بهدف رفع مستوى التوافق على الدستور الدائم، فإن الهيئة التأسيسية نجحت في اعتماد مشروع الدستور، وقدمته إلى مجلس النواب وإلى المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، فالهيئة التأسيسية انتخبت بالاقتراع السري المباشر، وحدد لها نصاب الثلثين لصحة قراراتها، وأن ما تقره هذه الهيئة المنتخبة يجب أن يطرح على الشعب الليبي في استفتاء عام، وأن يوافق عليه ثلثا المقترعين، كي يتحول إلى دستور دائم. وهذه لعمرك ضوابط غاية في التعقيد لم يسبق لها أحد من العالمين.
ومع كل ذلك، توصلت الهيئة إلى إقرار المشروع؛ وفق كل هذه الضوابط، والمشروع- منذ إقراره بتاريخ 29 يوليو 2017- في انتظار أن يقول الشعب الليبي الكلمة الفصل فيه، لكن بعض النافذين يمنعون ذلك، ويرون أن الشعب الليبي قاصر، ويجب أن يحجر عليه.
عقارب الساعة في الإعلان الدستوري تشير بنصوص واضحة وجلية إلى وجوب الاستفتاء، فالشعب الليبي هو من له حق إقرار الوثيقة الحاكمة التي تحدد شكل الدولة ونظام الحكم وبناء السلطات، ولا يمكن القبول بالافتئات عليه، وتجاوزه، والقبول بتحديد نظام حكم رئاسي من قبل مجموعات لا ولاية لها بشأن مضمون الدستور، أو من مجموعات تختارها جهة دولية.
ولبيان حقيقة عمل الهيئة التأسيسية وفحص مواقف أعضائها الرافضين لمشروع الدستور، يمكن الإيجاز على النحو الآتي:
أولا: عدد أعضاء الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور 60 عضوا، طبقا لما ورد في الإعلان الدستوري. وقد تم انتخاب 58 عضوا، وقاطعت الدائرة الانتخابية لعضوين، كانا يفترض أن يمثلا مكون الأمازيغ، وذلك لرفض نخبة هذا المكون الوطني لقانون انتخاب الهيئة التأسيسية.
ثانيا: تم إقرار مشروع الدستور بتاريخ 29 يوليو 2017، بعد أن وافق عليه 43، وهذا ما يزيد على نصاب الثلثين الوارد في الإعلان الدستوري، بالإضافة إلى عضوين وافقا عليه لكنهما لم يستطيعا الوصول إلى جلسة التصويت، وهما السيد علي حمداني من مكون الطوارق والدكتور محمد الهادي الصاري من مدينة زليتن. وبذلك يصبح عدد الموافقين فعليا على مشروع الدستور 45 عضوا.
ثالثا: هناك عضو من الهيئة أبطل القضاء عضويته هو السيد على الترهوني؛ لكونه قد اكتسب الجنسية الأمريكية.
رابعًا: ممثلو مكون التبو قاطعوا التصويت ورفضوا المشروع لأن بعضا من مطالبهم لم تقبلها الهيئة التأسيسية، فقد طالبوا بحصة في الحكومة، وفي المجلس الأعلى للقضاء، وفي الهيئات الدستورية المستقلة؛ كديوان المحاسبة والرقابة الإدارية وهيئة مكافحة الفساد، وأصروا على تسمية محافظات محددة لمكون التبو في الدستور، ورفضوا النص الانتقالي الذي يوجب مراجعة قرارات الجنسية في الفترة من 15 فبراير 2011 وإلى تاريخ نفاذ الدستور، وهي فترة عرفت بقرارات، صدرت من قبل ما كان يعرف باللجنة الشعبية العامة (مجلس الوزراء)، بمنح جنسية بالمخالفة للقانون، رغم أن المشروع نص على المراجعة وفق الضمانات القضائية اللازمة، وبعيدا عن أي إمكانية تدخل من السلطتين التشريعية والتنفيذية (انظر المادة 186 فقرة 4 من المشروع).
خامسًا: جاء موقف العضو المبروك الزوي من الكفرة على النقيض من مطالب مكون التبو، وهو رافض للمشروع؛ لأنه يرفض بشدة ذكر المكونات الوطنية الليبية في مشروع الدستور، ويعارض النص على أي لغة لليبيا عدا اللغة العربية، ويطالب بأن يكون اسم ليبيا "الجمهورية العربية الليبية"، لا الجمهورية الليبية. ويقف معه نفس الموقف العضو أحمد القنصل من مدينة الزاوية، الذي يرى أن الشعب الليبي شعب عربي، ويرى كذلك أن العروبة ثقافة تشمل كل الليبيين دون استثناء، القنصل قام أيضاً بتقديم طعن في عمل الهيئة، انتهى مع غيره من الطعون بمبدأ المحكمة العليا، الذي قضى بأن لا معقب على عمل الهيئة إلا من الشعب في استفتاء عام. وقريب منهما العضو محمد لاغا من مرزق؛ بالرغم من أنه كان مترددا ولم يستطع أن يعلن عن أي موقف معارض لمكون التبو داخل الجلسات، بالنظر إلى طبيعة الصراع في دائرته الانتخابية.
سادسًا: ألحت العضو ابتسام أحمد بحيح على أن تكون بنغازي عاصمة ليبيا؛ بحجة أنه يكفي طرابلس كونها عاصمة البلاد لأكثر من نصف قرن.
سابعًا: العضو المعارض عبدالحميد جبريل آدم من الجبل الأخضر يطالب بالنظام الفيدرالي، وأن تكون السلطة التشريعية من غرفة واحدة بالتساوي بين الأقاليم الثلاثة، ومن دفوعه أيضاً اعتماد مكان الثروات الطبيعية كمعيار لتوزيع المقاعد في السلطة التشريعية.
ثامنًا: العضو المعارض سليمان بوشلفة من دائرة القبة، وكان الأقرب من بين المعارضين للموافقة على مشروع الدستور، ولكنه يرى ضرورة التساوي في مقاعد مجلس الشيوخ بين الأقاليم الثلاثة، وهو الأمر الذي كان ينص عليه المشروع في صيغته الأولى لسنة 2016، والذي عارضه عدد من أعضاء المنطقة الغربية.
تاسعًا: طالب الدكتور عبدالقادر اقدورة -رحمه الله- بالنص على تقسيم الثروات على الأقاليم، 30% لكل أقليم، و10% للحكومة المركزية؛ بغض النظر عن عدد السكان.
عاشرًا: الدكتور محمد أبوروين المعارض للمشروع، لم يحدد ماذا يريد بشكل واضح، بالرغم من أن أغلب مقترحاته تركز على النص على تقسيم البلاد إلى أقاليم ومقاطعات، ومنها تقسيم البلاد إلى أربعة أقاليم (المنطقة الشرقية ومركزها بنغازي، المنطقة الوسطى ومركزها مصراته، والمنطقة الغربية ومركزها طرابلس، والمنطقة الحنوبية ومركزها سبها).
حادي عشر: العضو الدكتور مصطفى عبدالحميد دلّاف يرى ضرورة تبني النظام الملكي الفيدرالي والعودة إلى دستور 1951 غير المعدل، ويتفق معه في الطرح الفيدرالي العضو المعارض الدكتور سعد سالم طالب من مدينة المرج. رغم أن دستور 51 تم تعديله من مجلس الأمة بالقانون رقم 1 لسنة 1963، والذي صدر وفق اشتراطات الدستور، وفي ظل حكم الملك رحمه الله. وأن هذا التعديل تم من سلطة منتخبة، بخلاف دستور 1951 الذي وضع من قبل لحنة معينة، ودون استفتاء.
ومتى كان الأمر هكذا، فإن علينا أن ندرك التوافق العالي داخل الهيئة على مشروع الدستور، وأن الوصول للإجماع بشأن أي عمل حيوي مثل الدستور ضرب من ضروب المستحيل، ومن خلال فحص مواقف المعارضين وجدنا أن مواقفهم متعارضة ومتضاربة، ولا يمكن تلبيتها، في ظل البحث عن دستور توافقي بقدر الإمكان.
توافق 45 من أعضاء الهيئة التأسيسة الـ57، أي ما يقارب 79% تعتبر نسبة عالية جدا، وأن المشرّع الدستوري أضاف شرط حصول المشروع على ثلثي المقترعين في استفتاء عام، وأنه في حالة رفض الشعب له يرجع المشروع إلى الهيئة؛ لتعديله.
والقول بأن الشعب رافض للدستور!! هو تقويل للشعب ما لم يقل، فرأي الشعب لا يعرف إلا عبر الاستفتاء، وبعض الساسة المتنفذين الذين يروجون هذا الادعاء، يزورون إرادة الشعب ويفترون عليه ويتحملون المسؤولية التاريخية.
علينا أن نتساءل عن سر هذا الإصرار في فرض الوصاية على الشعب الليبي، ومنعه من حقه في أن يقول كلمته في المشروع الذي انتخبت الهيئة التأسيسية لصياغته؟!
تعليقات