Atwasat

لماذا أنت ليبي؟ (2 من 2)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 25 مايو 2021, 01:33 مساء
أحمد الفيتوري

لم يكن الكاتب المنظر عبد الله القويري مدرسيا / ولا مذهبيا، بقدر ما هو صاحب الفكرة المحددة التى لاحدود لها؛ كان عبدالله القويرى حواريا أي جداليا – مثل أستاذه أفلاطون الذى قدم حوارياته المعروفة – يقبل الأطروحة الضد لينفيها، إن حوارياته الكامنة فى كل مقالاته وخواطره – وما أسماه مسرحيات – هى حواريات الفكرة الواحدة التى تنقسم لتنقسم، وكأنها مونولوج واحد يلبس قناع ديالوج، لهذا اهتم اهتماما مبالغا فيه بالكلمة، لا الكلمة الحية بل الكلمة المطلقة فكان قاموسيا يبحث فى الدال عن مدلوله الواحد المحدد والنهائي، الذى ولا شك تضمه دفات المعاجم حيث الكلمة ذات البعد الواحد.

يمكن أن نشير هنا إلى كتابه "ذلك العساس" وجهده المستميت فى البحث عن المعنى المنجز القاموسي لكلمة "شوفينية"، ونفيه للمعنى الاصطلاحى الذى اصطلحه أصحاب الفكرة القومية لهذه الكلمة. إن الكلمة خيمة عبدالله القويرى التي تقيه رياح الآخر، وسلاحه لمحاربة قبائل القبلي، فالكلمة عند القويرى محددة وقائمة بذاتها تعطي معناها الثابث والأزلى حيث تحل. وقد قام لذلك بجهد مضنٍ لأن الكلمة عنده لم تكن فى البدء وحسب ولكن الكلمة هى الوجود أو هى منزلة الوجود كما اللغة عند هيدجر، والكلمة هى قطر الدائرة؛ الهوية التي مركزها الذات، ولعله لهذا لم ينحت ولم يكن اشتقاقيا في اللغة بقدر كونه أركيولجيا.

وهكذا بصيغة أخرى قد تبدد الصيغة المذكورة آنفا، بدأ مفهوم الهوية عند القويري مفهوما ثالوثيا: الذات المركز التى هي جوهر، الوطن المفهوم الأزلى الذي توطنت عليه النفس، لا بالميلاد أو باللغة ولكن بالتوارث، فالمرء يرث وطنه أينما كان وكيفما كان؛ حتى أن القويري يحلل لعنة أوديب سوفوكليس، بأنها لعنة الوطن التي تطارد كل من يعبث بقدره/ وطنه، يحاول الفرار من ظله، وكذا عطيل شكسبير الذي بدأت جريمته ساعة نأى عن مغريبته/ وطنه. والكلمة حيث الوجود والإنسان هو كلمة، التي هي ليست اللغة الأم وحسب، بل الكلمة الكينونة وجدان الوجود الإنسانى دم العرق.

والقاريء "وقدات " السيرة الذاتيه لعبدالله القويري يلاحظ إلحاحا على العزلة، عزلته في مهجره، ثم تأكدت هذه العزلة،عزلة العائد الذي أخذ عن ذاته بالانشغال فى بحث مضن عن معنى لكيان لهذه الذات. وإن الوقدات ليست أكثر من سيرة، ولكنها سيرة لسيرورة باحثة عن الوطن، مشوبة بهذا الغموض الشعري الذي لبس مفهوم الهوية، عند عبدالله القويري. رغم كل المحددات التي أشرنا إليها ولعل لهذا، فإن عبدالله القويري أكمل عمره الإبداعى والطبيعى بأعمال صوفية، تستعيد ذاكرة شعبوية لسماء ووقائع صوفية محلية من مدينة أجداده، من كأنه نام على قبرهم ليستمد الرؤيا، ثم غادرنا ليضمه نفس القبر، تاركا توضيحات غامضة لرؤية أكثر غموضا؛ تستأهل كل الجهد للبحث والدراسة وكشف مكوناتها ونتائجها وارتباطاتها. حيث كأن وصية عبدالله القويري: في الأخير فإن مشكل الهوية، ليس مشكل الذات المتعينة بل مشكل الذات المفارقة أو على الأقل الملتبسة، لهذا لا بد من البحث عن الحاضر في الغائب وعن الغائب في الحاضر؛ عن الخاص في العام عن التاريخ في المستقبل، فكأن وجودنا يستمد من هذا المستقبل الذي إن تمكنا من تحديده تمكنا من إيجاد صيغة لمعنى وجودنا؛ نحن الذين نصيغ ونصوغ معنى الكيان، وغربلة إمبراطورية الرمل لا تتم بغير غربال المستقبل، أنتم يا أبناء الرمل الذين توجدون في المجهول.