Atwasat

حكايات.. العم جمعة

حمدي الحسيني السبت 18 أبريل 2020, 11:25 صباحا
حمدي الحسيني

زرت لندن مرات عديدة، وعايشت شوارعها ومقاهيها.. عشقتها ربما لأنها كانت أول مدينة أوروبية أزورها في بداية حياتي، وحفرت في ذاكرتي مواقف لا تنسى، إلى أن خرجت تلك الانطباعات في كتابي الأول (لاجئ في لندن) الصادر عام 2001، لكن بقي لغز مدينة الضباب يلاحق خواطر المرء بأسراب من الأسئلة والألغاز، إلى أن وجدت في (حكايات من البر الإنجليزي) للروائي العربي الكبير جمعة بوكليب، نموذج إجابة مبهرا لعلامات الاستفهام تلك.

في فصول هذا العمل الإبداعي المتقن من (أدب الرحلات)، انشطرت القاعدة الهندسية التي تقول إن الخطوط المتوازية لا تتلاقى، ومعها انفتحت أبواب (مغارة علي بابا) في لندن بكلمة سر (العم الجمعة) التي ظلت تطارد عقلي، وتفتح أمام عيني فضاءات جديدة يتلاقى فيها اللصوص والشرفاء، والأحرار والعبيد، واليهود والمسلمون والسيخ والهندوس، فلندن هي مدينة الأمراء والفقراء المال والأعمال، وهي بوتقة تنصهر بداخلها تناقضات العالم وغرائبه.

من سجن الحصان الأسود في طرابلس، إلى حي (ويلزدين غرين) غرب لندن، ومن أحلام الطفولة الوردية، إلى لوعة ومرارة الغربة في أوروبا، ومن بيئة تعد عليك أنفاسك إلى أجواء مفتوحة لا تعرف القيود ولا الحدود، بلغة سهلة وبسيطة يصحبك الكاتب الليبي جمعة بوكليب إلى عالمه الخاص وحكاياته المشوقة.

للوهلة الأولي تظن أن الحكايات، مواقف شخصية، وخواطر تخص الكاتب وحده، لكن سرعان ما تكتشف أنها تعكس واقع الإنسان الليبي، بل والمواطن العربي أيضاً، سواء في داخل وطنه أو خارجه، مع أنه راوي الحكاية وبطلها، إلا أنه حرص على أن تتضمن كل حكاية عبرة أو رسالة أو هدفا، نجح بجدارة في توصيلها للقراء.

رغم أن حكايات بوكليب أقرب إلى اليوميات، أو المذكرات، لكن بسهولة يمكن تصنيفها كمشاهد سينمائية توثق حياة كاتب عربي، اضطرته ظروف وطنه إلى أن يودع أهله وأصدقاءه والأماكن التي يحبها، ويحمل ذكرياته ويرحل إلى وطن آخر يختلف كل الاختلاف عن وطنه الأصلي، فلم يجد أمامه سوى التأقلم والاندماج والتعايش مع واقعه الجديد بكل ما فيه من ألم وأمل.

مثلاً، في حكاية حالة خاصة جدا، عندما شاهد صدفة أحد أصدقائه الليبيين في نشرة الأخبار وسط مظاهرة حاشدة أمام مقر نادي نيو كاسل البريطاني، واتصل به على الفور للاستفسار عن سبب مشاركته في التظاهرة، رد مبتسماً أنه فعلا لا يعلم سبب التظاهرة لكنه شارك وسط المتظاهرين، لرغبته في المشاركة بأي مظاهرة، ثم ردد خلالها هتافات ضد الحكام العرب، عدا اثنين الأول رئيس الصومال لأنها دولة بلا رئيس، والثاني موريتانيا التي كانت على موعد مع انقلاب عسكري ولا يعرف لها رئيسا!

لم تغب القضية الفلسطينية أيضاً، فمع (حكاية سوزي) نعيش تفاصيل تلك الطالبة الفلسطينية التي فضلت أن تقدم نفسها لزملاء الدراسة كونها إسرائيلية فيما تنكرت لهويتها وجذورها الفلسطينية، وستشم رائحة الفلسفة والحكمة بين ثنايا تلك الحكايات، كما هو الحال في (سؤال كل خريف).

ليبيا كانت الحاضر الغائب في الحكايات من السطر الأول حتى آخر نقطة، سواء بشكل مباشر أو من خلال تفاصيل كل حكاية كما هو الحال في حكاية الحاج منصور، تحب تفهم تدوخ، ويا هم العمر، وعزف منفرد ومألوف، وجيل وجيل وغيرها.

أهم سمة ميزت حكايات بوكليب، قدرته البارعة على السفر بين التفاصيل الصغيرة، من محطة الحافلات إلى خطوط السكك الحديدية، ومن أسماء وأسواق ومباني الأحياء والمدن الإنجليزية المختلفة، إلى جانب نجاحه الكبير في التأثير النفسي بخفة دم وأحاسيس شديدة الرقة والعذوبة، فلا تملك نفسك من الضحك معه في الباص، عندما وجهت سيدة عجوز صفعة مباغتة لشاب جالس في المقعد المجاور له، وقصة صديقه طرزان الذي ساقته الظروف للنزول عاريا كما ولدته أمه إلى الشارع ونشرت الصحف صوره في مكان بارز، ثم وصول الشرطة بعد منتصف الليل للقبض عليه وصديقه بتهمة الغناء الليبي بصوت عال.

ثم يقودك جمعة بوكليب سريعا نحو التعاطف معه عندما يحكي معاناته مع المرض وهو يعيش، وحيدا غريباً منتظرا الموت في مدينة لا ترحم.

لا يتركك صاحب الحكايات من دون أن تشاركه هواجسه، وهمومه، متاهاته ورغبته في الصوم عن الكلام، حتى مع زوجته وأولاده، كما تظل بصحبته وهو يعاني الملل وآفة النسيان، وسوء الحظ كما هو الحال في حكاية (في هجاء الجديان)!

المشهد الكاشف والأكثر تأثيراً وتعقيداً، وربما يعري واقعنا العربي المزري، بعد انتهاء فترة العشر سنوات التي قضاها ظلما خلف القضبان، وحان وقت إطلاق سراحه، عندما وصل إلى بيته وجد في انتظاره كاميرات التلفزيون تطلب منه بوقاحة توجيه الشكر للسجان!