Atwasat

المحيشى.. وتشويه التاريخ الوطني

محمد حمامة الإثنين 03 فبراير 2020, 12:24 مساء
محمد حمامة

من الملاحظ أن منصات التواصل الاجتماعى قد أتاحت الفرص للجميع للكتابة والتعبير والخوض فى كل موضوع بما فى ذلك التاريخ الوطنى لبلادنا، وهذا أمر محمود خاصة إذا كان الموضوع المثار هاما جدا ويتم الخوض فيه بموضوعية وصدق ورغبة فى توثيق أو رصد الأحداث بكل حياد وصدق يقصد من ورائه تسليط الضوء على جزء من هذا التاريخ الذى لم يوثق إلا لكي يخدم نظاما سياسيا معينا.

وقد لاحظت مؤخرا أن بعض المواضيع تعرضت لاتهام المرحوم عمر فخرى المحيشى بالخيانة لمجرد ترأسه تحرير صحيفة بريد برقة التي نشرت خبر القبض على شيخ المجاهدين عمر المختار ووصفته بزعيم العصاة.

إن الخطأ الكبير الذى يقع فيه الكثيرون ممن يخوضون فى التاريخ الوطنى هو تقييمهم للأحداث التى قامت قبل قرابة قرن من الزمان بمنظار ومعايير اليوم، وهذا الأسلوب فيه إجحاف كثير وظلم لبعض الأشخاص. ويتقمص البعض شخصية البطل الوطني فيصنف من عمل كموظف فى حكومة الاستعمار الإيطالى بأنه خائن إذ كان المفروض أن يرفض ويرفع صوته بالرفض وأن يقارع النظام الفاشى، ولا أعرف كيف أقَيِّم تصرفات هذه الفئة لو أنها عاصرت أو عاشت زمن الحكم الفاشي وهل كانت ستسمعنا صوتها الرافض؟. وهل كان بمقدورها أن ترفض الانضمام إلى المثابات الثورية فى عهد سبتمبر مثلا؟.

إن صحيفة (بريد برقة) هى صحيفة محلية تصدرها السلطات الإيطالية فى بنغازى باللغة الإيطالية لتنشر أخبار وبيانات وأوامر السلطة الإيطالية فى برقة (وأنباء ذلك العهد مع الأخبار العالمية ونتف من مقتطفات الجرائد) وكان رئيسها المرحوم عمر فخرى المحيشى، ويقول عنها شاعر الوطن وهو صهر عمر فخري المحيشى:

فلا يغررك ماقال البريد هراء لا يطاق ولا يفيد
إذا جاوؤك به فعجل إلى المرحاض يصحبك الوقيد

ويقول السيد على مصطفى المصراتى فى كتابه (صحافة ليبيا في نصف قرن ) أن وزارة المستعمرات الإيطالية كانت ترسل صور زعمائها وحركاتها الإدارية والتعليقات مرغمة أصحاب الجرائد على نشرها، ويضيف بعد ذلك قائلا أن بالجريدة منشورات وأوامر السلطات الاستعمارية وبلاغات الطليان عن حركات وتحركات المجاهدين فى برقة وأسماء بعض الشهداء والمقاولين والمعارك حيث كانت تنشرها الإدارة لأغراض في نفسها.

ويمضى السيد على مصطفى المصراتى فى الصفحة 238 من كتابه فيقول إن كلمات الأحرار في تلك الفترة العسيرة كانت صارخة مجلجلة في المهجر بسوريا ومصر ومن وراء الحدود ولكن أصحاب الأقلام في ليبيا حرمهم الاستعمار من التعبير الحر وأطبق على خناق الحرية وشدد النكير..... إلخ

والمرحوم المحيشى كغيره من عشرات الليبيين الذين تمتعوا بقدر من التعليم إبان زمن الاحتلال الإيطالى فلم يجد بدا سوى العمل طرف هذا المحتل، وأنا لست مدافعا عن السيد المحيشى فلا تربطنى به علاقة قرابة لكنني أنتهج منهج الشفافية والصدق فى رصد وتوثيق التاريخ. إن الكثير من الليبيين الذين عملوا مع الحكومة الإيطالية قد قدموا خدمات لليبيين عامة وبعضهم قدم خدمات للمجاهدين بتسريب بعض المعلومات أو بتلقين بعض الأسرى شهادات معينة تفيدهم أثناء التحقيق عند قيامهم بالترجمة، ولعل تنبيه المرحوم عمر باشا الكيخيا للأمير إدريس بأن السلطات الإيطالية تنوي ايقبض عليه خير دليل على ما يمكن أن يقدمه العاملون الوطنيون مع الإدارات الاستعمارية.

في ذلك الزمن وما قبله لم يكن في ليبيا مثلا حكومة وطنية وحكومة إيطالية لكي يصبح العمل في إدارة حكومة الاحتلال خيانة ولم يكن هناك في الأصل كيان سياسي وحكومي ليبي حتى قبل الاحتلال الإيطالى، لقد عمل السيد المحيشى كموظف في السلطات الإيطالية وكما أسلفت كغيره من الليبيين وقد كان من سوء حظه أن يكون على رأس صحيفة تنشر ما يريده المستعمر ولكن هل نتوقع أن تنشر الصحيفة التى يرأسها مثلا عنوان خبر القبض على شيخ الشهداء بأن شيخ المجاهدين قد سقط أسيرا؟.

خلال بحثى فى المكتبة الوطنية المركزية بروما عام 2012 بين الصحف الإيطالية الصادرة فى تلك الفترة وجدت أن صحيفة الميساجيرو الإيطالية وفي عددها الصادر يوم الأربعاء 16سبتمبر 1931 قد نشرت الخبر وبنفس صيغة العنوان باللغة الإيطالية مما ينبيء بأن الخبر المنشور هو عبارة عن بلاغ او بيان رسمي صادر عن السلطات الإيطالية.

إننا نعلم أن الكثير من الشخصيات الوطنية في مجالات الاقتصاد والتعليم والقانون والصحة والإعلام قد عملت أو تعاونت في مجال عملها مع نظام القذافي ولكن لم يتجرأ أحد على وصمها بالخيانة لمجرد أنها عملت مع النظام.