Atwasat

العقل والدين والتسوية الممكنة

سالم العوكلي الخميس 20 ديسمبر 2018, 10:55 صباحا
سالم العوكلي

"لولا ديانات التوحيد والموحدين الجادة، ولا نقول المتهوسة بالتوحيد والوحدانية، لما قدر للاتجاه العقلاني التنويري أن يرى النور". عبر هذه الرؤية للتراكم المعرفي بكل حقوله التأملية، يحاول المفكر إرنست غيلنر أن يجابه التقسيمات المثنوية الضدية المتناحرة، عبر الإمكانية التي يراها لتقبل نوع من التسوية بينها، ولهذا المغزى يطرح كتاب غيلنر "ما بعد الحداثة والعقل والدين" صيغة جديدة لتقسيم مشهدنا المعاصر، الذي لم يعد ثنائي القطب، إلى ثلاث أيديولوجيات متنافسة على كسب الولاء المعرفي للحظة التاريخية، ويختصر هذه التسميات في: الأصولية الدينية التي تحظى بقوة نافذة في العالم الإسلامي، والنسبية التأويلية التي تمثلها حركة ما بعد الحداثة في العالم الغربي، والعقلانية التنويرية التي يوصي غيلنر باتباعها، وهي التي ـ حسب ما يرى ـ ستكون كفيلة بصهر الصراع الضدي العنيف في بوتقة الحوار المنبثق من تفاعل كل هذه المكونات التي يجمعها شيء من الورع تجاه فكرة الحقيقة، والتي يضعها جميعاً في إطار نقده لبعض التشوهات التي طالتها، وانزاحت بها إلى منطقة التعصب ذات الميول الأصولية الرافضة لما عداها، حيث يعتبر النسق الفكري الأول المتعلق بالإسلام بطئ التغيير لعدة عوامل داخلية تتعلق ببنيته الاجتماعية، والسياسية فيما بعد، وعوامل خارجية تتعلق بمترتبات الصدام الحضاري على مر التاريخ، منحازا في هذا الشأن إلى توضيح فريدريك أنجلز: "في حين كانت لغة الصراع السياسي دينية في المسيحية والإسلام معاً، إلا أنها أدت في المسيحية إلى تغيير حقيقي، بينما لم تؤدِ في الإسلام إلا إلى تكرار وتعاقب الأشخاص في نظام اجتماعي ثابت لا متغير".

مشيرا في أماكن أخرى من الكتاب المثير للجدل إلى العديد من الأنماط العبادية المختلفة فيما يخص الإسلام النخبوي الذي يمثله العلماء والفقهاء في المراكز الحضارية، وإسلام العامة أو الإسلام القاعدي الشعبي الذي يستخدم الدين لأغراض السحر والتعمية وليس كأداة للعلم والثقافة.

وفي الخيار الثاني ـ النسبية ـ التي، كما يرى، يمثلها الغرب في حركة ما بعد الحداثة، فإنه في صدد نقده لها يقدم العديد من الدلائل على أن هذا النسق قد غاص في الذاتانية المفرطة كصيغة انسحابية ملائمة من شأنها التكفير عن خطايا الكولونيالية، وأن المطالب الملحة التي رافقت هذه الحقبة فيما يخص الموضوعية كغاية مثالية كانت مجرد مراوغة براغماتية تسعى من خلال فكرة الاستحواذ المنهجي إلى الهيمنة وبسط السيطرة، وبالتالي سيكون الخيار الثالث الذي ينطلق من فكرة واحدية الحقيقة التي لم نبلغها حتى الآن، معتمدا صياغة بعض القواعد الإجرائية للعقلانية التنويرية التي تحل محل الإيمان الاعتقادي الجوهري، كقاعدة تؤسس للخيارين الآخرين، وهذا ما يجعله متفائلاً بشأن افتراض وجود تسوية داخلية ذات حلول وسط، الأمر الذي سيجعله يرحب بـ "أولئك المؤمنين الأصوليين الذين يستخدمون توقهم المتلهف للحوار لتوصيل استعدادهم لتقبل الحل الوسط" ومن هذا المنطلق كان من المفترض أن يكون كتابه هذا نصف كتاب يكمل جزأه الآخر البروفسور (أكبر أحمد) المسلم الورع الملتزم بدينه اعتقاداً وممارسة كما يقول في مقدمته للكتاب "نتيجة للاهتمام المشترك بيننا بالتنظيم القبلي في الإسلام، أتت الدعوة إلى مشروع الكتاب منه وصادق عليه الناشرون، بعد أن أنجز وفقاً لمتطلبات عقد يشمل تصوراً مركباً لمثل هذا المؤلف المركب" وهذا التصور المركب الذي يجئ في إطار تكتيكي حاذق من قبل غيلنر سيجعل أطروحته بصدد النسبية التي تتلبس جملة متنوعة من الصيغ، وتنكر فكرة الحقيقة الواحدة، أكثر إبهاراً وإقناعاً أمام إظهار فكرة مجاورة للأصولية التي تؤمن بواحدية الحقيقة و تعتقد بأنها تملكها، مثلما تطرح القوى الإمبريالية الجديدة مشروعها الليبرالي في حالة مقارنة غير وجيهة مع منظومات التطرف والاستبداد في مجتمعاتنا.

هل كان جيلنر كعادة الذين يعتبرون التوفيق إحدى السبل بين أطراف الصراعات التي لا تبدو أن لها نهاية في الأفق، يبحث عن البديل الثالث للصدام المعرفي بين الأصولية التي تعتقد بحيازة الحقيقة المطلقة والنسبية التي تعتقد أن الحقيقة الوحيدة هي آلية البحث عن الحقيقة كمصدر لتوليد المعرفة؟ بخياره الثالث المتعلق بالعقلانية التنويرية هي التي بإمكانها استيعاب هذه التضادات في حال اقتنعنا أن الحقيقة التي نسعى إليها واحدة. وهو إذ يحاول الجمع بين هذا التضاد الجوهري في كتاب واحد كان ينطلق من فكرة أنه يمكن الجمع بينهما في واقع واحد أو مجتمع واحد.

يحاول في كتابه أن يضع مفهومه للعقلانية التنويرية في نظرية إجرائية محددة تستعير منطلقاتها من اجتهادات فلسفية سابقة لم تتموضع في نسق إجرائي كي تضعها في سياق عملي.

ربما كان سيغير جيلنر خارطة طريقه المعرفية لو أنه كتب الآن، وما يشهده العالم من بروز جديد للحركات القومية الفاشية الناشئة في عقل تشرب النسبية كقاعدة لما بعد الحداثة تدريجيا، والأصولية الدينية المهووسة بحقيقتها الواحدة التي تستلزم حروبا ضارية كي تأخذ مكانها في هذا العالم الذي تتقوض فيه بشكل سريع مرتكزات العقلانية التنويرية التي بشر بها جيلنر منذ عدة عقود أو بشرت بها ما بعد الحداثة كأطروحة تشكك في اليقين حتى في مختبرات العلم.