Atwasat

إشكالية المصالحة الوطنية في ليبيا

الشيباني أبوهمّود الخميس 19 أبريل 2018, 01:22 مساء
الشيباني أبوهمّود

دأب الليبيون بمختلف مشاربهم، منذ العام 2011، على ترديد مقولة إن ليبيا بحاجة إلى مصالحة وطنية (National reconciliation). عشرات الملتقيات والندوات عقدت في الداخل والخارج لمناقشة هذا الموضوع، والكل يردد بأن الأزمة مستمرة لأننا لم ننجح في تحقيق المصالحة الوطنية. لكن لم يتساءل أحد عما إذا كانت الأزمة الليبية من ذلك النوع من الأزمات التي تحل بالمصالحة الوطنية. عوامل عديدة ساهمت في عدم طرح هذا التساؤل، لعل أهمها، أولا، جنوح الطبقة السياسية نحو محاكات كل الأفكار المستوردة من الخارج ظنا منها بأن ذلك يعطيها قبولا دوليا وتميزا داخليا. ثانيا، استسهال الحلول وعدم الاستعداد لبذل الجهد الكافي والمطلوب للتعاطي مع الأزمات. بالطبع فإن المصالحة الوطنية مشتقة لغويا من كل ما هو جميل كالصلح والتصالح والتسامح والغفران وتجاوز آلام الماضي، ولكنها كمفهوم سياسي تظل مرتبطة بظروف وبشروط لازمة، بدونها تفقد المصالحة الوطنية وظيفتها الأساسية كوسيلة لتجاوز أنواع محددة من الصراعات داخل المجتمعات. فالشعوب والمجتمعات تحتاج لإجراء مصالحات وطنية في حالتين هما: الحروب الأهلية أو حدوث انقسام مجتمعي حول قضية أو قضايا ذات بعد وطني.

فهي تكتسب صفة الوطنية من كون الانقسام الذي تهدف إلى جبره أو أن الموضوع الذي سبب الانقسام ذو طبيعة وطنية تهم المجتمع ككل وتعرقل إمكانية العيش المشترك بين أبنائه، بحيث ينقسم هذا المجتمع عندها إلى قسمين أو ثلاثة. إذاً فالشرط اللازم للقيام بالمصالحة الوطنية في أي مجتمع هو وجود خلاف يقسّم المجتمع إلى قسمين أو ثلاثة. المصالحة الوطنية بهذا الشكل تختلف عما يسمى بالمصالحات المجتمعية أو المحلية (Local reconciliations) والتي تعالج الخلافات البينية أو التحت- قطرية بين المدن أو القبائل أو حتى بين مجموعات من الأفراد والتي لا تصل خلافاتها إلى درجة الانشطار المجتمعي على مستوى القطر ككل.

الأكيد هو أن صراعات عديدة شهدتها وتشهدها ليبيا منذ العام 2011 بين مدن مختلفة وقبائل مختلفة ولكن هذه الصراعات تظل صراعات محلية، بعضها وجد حتى قبل ال 2011 ويوجد مثلها في مجتمعات عديدة، وليست هي من يعرقل قيام الدولة في ليبيا اليوم. لقد نجحت الوسائل التقليدية، التي عزز غياب الدولة من حضورها ومن أهميتها، في إخماد الكثير من الحرائق ورأب الصدع بين الكثير من مكونات المجتمع الليبي، وهي جهود عظيمة يجب احترامها وتبجيلها، ولكن لا يجب الخلط بين هذه المصالحات وبين المصالحة الوطنية بمفهومها العام. فالأزمة في ليبيا اليوم هي أزمة سياسية تحتاج إلى حل سياسي لا يمر بالضرورة عبر المصالحة الوطنية بالمفهوم المحدد للمصطلح، وعلى من يدعي الحاجة إلى مصالحة وطنية في ليبيا لنتجاوز هذه الأزمة أن يحدد، أولا، من هما طرفا الصراع المجتمعي اللذين يجب إجراء المصالحة الوطنية بينهما، كما أن عليه، ثانيا، أن يحدد ما هو الموضوع الذي ينقسم حوله الليبيون إلى فريقين أو ثلاثة. بكل تأكيد فإن انتهاء الأزمة السياسية سيؤدي إلى نوع من المصالحة الوطنية ولكن ذلك يعني أن المصالحة الوطنية ستكون نتيجة للحل وليست سببا له.يصعب الادعاء اليوم بوجود موضوع ينقسم حوله المجتمع الليبي إلى قسمين، كما يصعب العثور على طرفين للصراع في ليبيا بحيث تجرى المصالحة بينهما.

ربما كان ذلك ممكنا في عامي 2011 و 2012 بين أنصار سبتمبر وأنصار فبراير ولكن من الواضح أن هذا الانقسام قد تجاوزته الأحداث. فقد انقسم أنصار فبراير على أنفسهم وكذلك فعل أنصار سبتمب، وحدثت تحالفات بينهما أظهرت مدى العبث السياسي في ليبيا وكشفت فرية الادعاء بوجود انقسام مجتمعي في ليبيا يحتاج إلى مصالحة وطنية. إن نظرة سريعة على مكونات السلطتين التشريعية والتنفيذية، وحتى العسكرية، في البلاد تبين بجلاء أن انقسام المجتمع إلى سبتمبر وفبراير لم يعد موجودا. فالبرلمان يتكون من عناصر تجاهر بانتمائها إلى المعسكرين وبينها من الانسجام ما لا يوجد داخل المعسكر الواحد. بعض شخصيات النظام السابق هم اليوم وزراء في حكومة الوفاق الوطني. كما أن العسكريين الذين تقاتلوا أثناء الثورة، يقاتلون اليوم جنبا إلى جنب. فالصراع الحالي هو صراع بين من هم في السلطة، وهم قلة، وبين من هم خارجها وهم الأغلبية، ومثل هكذا صراع لا يحل بالمصالحة الوطنية.

لقد أثبتت التجربة أن مواقف أطراف الصراع في ليبيا تتغير بتغير المصالح، مما يعني عدم وجود خلاف مجتمعي عميق يحتاج إلى مشروع للمصالحة الوطنية. ففي الشرق الليبي عاد الكثير من رموز النظام السابق وتم استقبالهم بكل ترحاب، كما تم إلغاء قوانين العزل السياسي ولم ينتظر أحد نجاح مبادرات المصالحة الوطنية للقيام بذلك. وفي الغرب الليبي حيث يسجن بعض رموز النظام السابق، تم تعيين زملاء سابقين لهم وزراء ومسؤولين في المؤسسات الرسمية بدون أي تفسير منطقي أو سياسي لهذا الواقع. لقد أصبح من الصعب أخلاقيا تبرير استمرار سجن بعض رموز النظام السابق طالما أن السلطة التي تحتجزهم مكونة، ولو نظريا، من زملائهم السابقين الذين شاركوهم أفعالهم خيرا أو شرا. الصراع بين الإسلام السياسي والتيار الذي يسمي نفسه مجازا بالتيار المدني هو أيضا من نوعية الصراعات السياسية على السلطة التي لا تحل بالمصالحة الوطنية. فهما تياران نخبويان لا جذور عميقة لهما في المجتمع وقد حالت الطبيعة القبلية المحافظة للمجتمع الليبي دون محاولاتهما الولوج في المجتمع أو خلق أي حالة من حالات الالتفاف الوطني حول أيٍ منهما. مثل هكذا صراع نخبوي عادة ما ينتهي إما بتقاسم للسلطة في تسوية سياسية وإما بظهور طرف ثالث يخرجهما من المشهد.

في ليبيا هناك أزمة سياسية تدور بشكل أساسي حول السلطة والثروة وهي بهذا الشكل لا تحل إلا بتسوية سياسية أو بقيام أحد الأطراف باحتكار السلطة دون بقية الخصوم. محاولة حل هذه الأزمة عبر أدوات المصالحة الوطنية ليست إلا إضاعة للوقت وإطالة للأزمة ودليلا على وجود تشخيص خاطئ لطبيعة الأزمة ولأسبابها. المصالحة الوطنية شيء جميل ولكن ذلك لا يعني أنها عصا سحرية صالحة لحل كل الازمات وفي كل الأوقات.
*سفير ليبيا السابق لدى فرنسا