Atwasat

بَخَسَ !

صالح الحاراتي الخميس 19 أبريل 2018, 12:49 مساء
صالح الحاراتي

رغم وجود الحكمة التي تقول:
(وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أشْياءهُمْ ).
في نصنا المقدس، ولكن السائد بيننا هو عكس ذلك تماماً... فنحن لا نعترف بالفضل لأحد بل نذهب مباشرة إلى البحث عن مثالبه ونقائصه ونتمادى حد السخرية والإسفاف والاستهزاء بالآخر أفراداً وشعوباً، ولكن لدينا استثناءً وحيداً يكون بموت الشخص المعني فتظهر لنا عند ذلك محاسنه وخصاله الحميدة ونقول فيه ما لم يقله
المتنبي في مدح سيف الدولة.

في قواميس اللغة نجد:
بخَسَ يَبخَس.. بَخَسَهُ حَقَّهُ: أي لم يُنْصِفْهُ حَسَبَ ما يَسْتَحِقُّ، أي ظَلَمَهُ
بَخَسَ الكَيْلَ أو المِيزانَ: نَقَصَهُ، غَشَّ فِيهِ، وبَخَس فلاناً: أي عابه.

يحدث ذلك في مجتمعنا رغم أن التجربة الإنسانية تؤكد أن الشعوب لا سبيل لها حتى تراكم الخبرة والمعرفة عبر الأجيال إلا بتقدير واحترام رموزها الوطنية وكبار رجالاتها.. والكبير هنا ليس كبير المال والسلطة ولكنه كبير الوطنية والإخلاص لوطنه وعمله.
والأسباب متعددة وربما أحدها أننا ابتلينا في زمن سابق بانتشار ثقافة تبجل مفردات الاستهزاء والتحقير مثل «حسنى البارك والذيل نميري ومربط الحمير» وغيرها، والتي ما زال كثير منا يعيشها بحيث لا نجد إلا الاستعلاء المرضي وانعكاس ذلك سلبياً على كل مواهبنا ورموزنا الوطنية.. كم فقدنا من أدباء وكتّاب وفنانين وسياسيين ولم ينالوا حق التكريم والاحتفاء بهم وهم أحياء!؟ كانت عيوننا تذهب غالباً إلى النقائص ولا ترى الجوانب المضيئة.

المجتمعات التي عرفت طريقها للتقدم والرقي لم يتحقق لها ذلك إلا بالتفاتها واعترافها بالفضل لأبنائها الذين قدموا شيئاً وعملاً نافعاً متميزاً ساهم بشكل إيجابي في مسيرتها حتى يكون حافزاً للأجيال القادمة، بينما الأمر جد مختلف في مجتمعنا؛ فالمتتبع للسلوك الجمعي وما ينساب من بين ثنايا ثقافته يكتشف أن «بخس الناس أشياءهم» هو المنهج السائد المتوارث من ثقافة استبدادية إقصائية لم تترك مجالاً للاحترام والتقدير إلا لمن هو قابض على السلطة.. أما تقديرنا واحترامنا للأشخاص فذلك مكانه مصفوفة الرثاء عندما يغادرون الحياة.

إن «بخس الناس أشياءهم» حالة لا علاقة لها ومفارقة للنقد المنهجي الموضوعي، فبينما الأخير يتوسل الموضوعية والمنهجية بغية الإسهام في تنقيح التجارب والدفع بها نحو التطور والارتقاء نجد أن التبخيس لا علاقة له بعقلانية أو منطق.
حياتنا مليئة بالنماذج التي تؤكد هذا السلوك، وكمثال، يكفي أن تكون في جلسة تسودها كافة النقاشات من فن ورياضة وثقافة ومجتمع، وأردت أن تشيد بكاتب أو شاعر مميز حتى يتصدى لك أحدهم بالقدح والذم في سيرته وحياته الشخصية وعرقه وأصله وعقيدته، أو أن تتحدث باحترام عن تجربة أحد الفنانين فيجيبك أحدهم بامتعاض ظاهر: «نعم ولكنى لاحظت أنه يصبغ شعره!!» وما إلى ذلك من التعليقات غير المتماسكة أو إن شئت الدقة المتهافتة التي قد تصادفك يومياً، والتي كلها تتفق في تلك (الذهنية المتربصة) التي لا ترى إلا النقائص ولا تتوسل أية نوع من العقلانية في ما تود تسفيهه وتبخيسه.

هذه الثقافة تنامت وتجذرت للدرجة التي غيبت رموزنا الوطنية في كافة المجالات عن الحضور في الذاكرة الجمعية.. ناهيك عن معاناة ممن يمتلك موهبة ما ويريد إظهارها، فالمحاولة هنا تبدو محفوفة بالمخاطر لأن ثقافة الاستهجان جاهزة ومتحفزة للانقضاض عليه، والألقاب المحملة بدلالات الاستحقار جاهزة للالتصاق به مرة وإلى الأبد، ليس أقلها (الأعور والأحول والعايب والعبد والأبرص.. إلخ).
نحن للأسف أسرى لثقافة ورثناها من نظام كان شديد الحرص على بخس الناس أشياءهم.. وتسفيه واحتقار كل من حوله حتى يبقى شخصه ظاهراً للعيان وغيره أقزاماً...
تعودنا ألا نعطى قدراً لأحد إلا من أجبرنا يوماً على أن نعطيه إياه «إما خوفاً أو طمعاً».. ذاك عزز بشكل أو بآخر فكرة يتم استبطانها بقوة في اللاوعي الجمعي تسعى حثيثاً لزجر أي بوادر لموهبة أو تفوق من باب أن الناس متساوية وكلنا «أولاد تسعة»، و«شنو يحساب روحه»، وهذا أضعف بدوره من قيمة الموهبة وبالتالي سيطرة ذهنية التبخيس متمثلة في لغتها السائدة، أي يصبح الفنان «زكار» والشاعر «بياع كلام»… وما إلى ذلك من مدلولات مشحونة بمعاني تحقيرية.. وأظن الأمر عند النخب لا يختلف عما هو الحال في باقي المجتمع، حيث نجد غياب نسبية الآراء والتمترس خلف حقيقة موهومة تجعل من الآخر «نكرة» أو «جاهلاً» في أحسن الأحوال، هذا إن لم يستطل الحال إلى أنواع أخرى من الاغتيال المعنوي!
خلاصة الأمر يبدو أنه من الواضح أن التبخيس ساهم بفاعلية حقيقية في كبح تطور المجتمع في الكثير من مناحي الحياة، وعمل بقوة على تنميطه بحيث صار إيقاع الحياة يسير على وتيرة واحدة لا تشعر معها بأي قيمة لتراكم التجارب الحياتية والإبداعية.

ومن نافلة القول أن نشير إلى أن هذا الجو المشبع بروح «الإرهاب التبخيسي» كان ولا يزال سبباً لتطاول المتصحرين عقلياً، وعاملاً من عوامل شيوع روح الانتهازية في مختلف مجالات الحياة للحد الذي صبغ كامل حياتنا بسقم وجودي مستدام يتبدى معه الإصلاح أمراً في غاية الصعوبة.

وللأسف الشديد أدت تلك الحالة إلى اليأس والقنوط والجمود وفقد الأمل في تجاوز الوضع القائم في سلبيته مهما تعددت الخطط وتكاتفت الجهود.

«بخس الناس أشياءهم» تعمي الأبصار عن إدراك كل منجز، وإن قلّ. وتنتج ثقافة تستحث الهمم والأقلام والألسن للتشكيك في كل محاولة جادة للخروج من نفق التخلف.