Atwasat

المعتزلة ومآلات التطرف

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 25 مارس 2018, 11:51 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

دخلت الفلسفة اليونانية مجال التداول الفكري في العالم الإسلامي، أول ما دخلت، عن طريق علم الكلام، وتحديدا عن طريق فرقة المعتزلة المعروفة. فمع اتساع رقعة الدولة الإسلامية ودخول شعوب أخرى متقدمة عن العرب فكريا وحضاريا، وأصحاب ديانات أخرى، ولاستخدام مثقفي هذه الحضارات والأديان طرقا في الحجاج لم تكن معهودة لدى العرب يستخدمون فيها المنطق في تناولهم للإسلام وما يأخذونه عليه من مآخذ، اُضطر علماء المعتزلة إلى التصدي لخصومهم ومناظريهم باستخدام نفس سلاحهم، في المناظرات الشفهية وفي التآليف المكتوبة. كما ينبغي ألا ننسى أن أصول نسبة كبيرة من أعلام المعتزلة من الموالي، أي الذين ينتمون إلى هذه الشعوب غير العربية والديانات السابقة على الإسلام، ومنهم حديث العهد بالإسلام، ما جعلهم يتوفرون على رصيد معتبر من الفكر النظري العقلاني والمقدرة على استخدامه.

وبما أن علم الكلام علم لاهوت، ينطلق من مسلمات "نقلية" إيمانية تمثل المباديء الأساسية للدين، على خلاف الفلسفة التي تنطلق، نظريا على الأقل، من فرضيات عقلية خارج الدين ومسلماته، فقد أخذ علماء اللاهوت هؤلاء، أي المعتزلة، على عاتقهم الدفاع، بطرق الحجاج العقلي، عن الدين الإسلامي ضد منتقديه ومهاجميه والطاعنين عليه.

هذا الحراك الثقافي وما انبثق عنه من تفرعات ومستجدات فكرية قادهم إلى استخدام هذا المنهج العقلي، أو العقلاني، ضد خصومهم ومخالفيهم من الفرق الإسلامية الأخرى في قضايا من مثل هل الإنسان مُسَيَّر أم مُخَيَّر، ورؤية المؤمنين لله يوم القيامة، والصفات التي نسبها الله إلى ذاته هل هي مضافة إلى ذاته أم هي عين ذاته... إلخ.

وقد أدى إدخال الفلسفة والمنطق إلى مجرى الثقافة الإسلامية ظهور الفلاسفة لاحقا.

*
يوصف المعتزلة بأنهم رافعو راية العقل وحرية الرأي في الفكر الإسلامي، ومن هنا سبب العداء الشديد الذي ووجهوا به من قبل الفقهاء والمُحَدِّثين المعتمدين على النقل.

إلا أن المتطرفين من المعتزلة أسهموا إسهاما حاسما في النكبة التي أحاقت بهم بعد ذلك وقضت على هذا التوجه العقلاني قضاء مبرما، وذلك عندما أقنعوا المأمون، الذي أصبح معتزليا، بتبني الفكر المعتزلي عقيدة للدولة وحمل الفقهاء والقضاة خصوصا، على تبنيها والعمل بها.
بدأ هذا الأمر مع ثمامة بن الأشرس، أحد أهم أعلام المعتزلة الذي كان أثيرا جدا عند المأمون، حين اقترح عليه إصدار أمر بلعن معاوية على المنابر. إلا أن يحيى بن أكثم، قاضي القضاة حينها، والذي لم يكن معتزليا، عارض ذلك مخاطبا المأمون: يا أمير المؤمنين إن العامة لا تحتمل هذا [...] ولا نأمن أن تكون لهم نفرة، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه، ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصح في السياسة وأحرى في التدبير. فأخذ المأمون برأيه.

لكن يحيى بن أكثم عُزل من منصبه وحل محله أحمد بن أبي دؤاد الذي كان معتزليا واسع العلم والثقافة، إلا أنه كان متطرفا واستطاع إقناع المأمون، ومن بعده المعتصم والواثق، باتخاذ مذهب المعتزلة عقيدة لمؤسسة الخلافة وحمل الفقهاء والقضاة على القول بها وتطبيقها، وبالذات القول بـ "خلق القرآن" التي تمثل لدى المعتزلة جانبا مهما يتعلق بالأصل الأول من أصولهم الخمسة وهو التوحيد. فالله عندهم، كما هو عند المسلمين جميعا، واحد، أزلي، أبدي، لا شريك له. وبما أنه أزلي فهو متصف، وحده، بالقدم. فكل ما سواه حادث، أو مُحَدث. أي مخلوق من قبله. والقول بأن القرآن غير مخلوق يماثل القول بأنه يشارك الله في القدم، وهذا محالٌ منطقيا، وكفرٌ عقائديا. فالقرآن، إذن، مخلوق من مخلوقات الله مثله في ذلك مثل أي مخلوق آخر من جماد أو نبات أو حيوان.
محاولة فرض هذا الرأي عقيدةً لمؤسسة الخلافة ذاتها وحمل الفقهاء والقضاة عليها أدت إلى ما عرف في ما بعد بـ "محنة ابن حنبل" المُحَدِّث والفقيه المعروف الذي رفض الانصياع رغم ما لاقاه من حبس وتعذيب.

ومن جانب آخر أدت هذه الممارسة الاستبدادية إلى المزيد من تأليب العامة، المنحازين أصلا وبحكم درجة وعيهم إلى المُحَدِّثين والفقهاء، على المعتزلة. ولذا، فحين انقلبت الدولة على المعتزلة، في عهد المتوكل، كان الجو العام مهيأ للانتقام من المعتزلة واستئصال جذورهم.

وبالتالي يكون عدد قليل من المعتزلة أصحاب النفوذ في الدولة والذين صادف كونهم متطرفين [ونقصد بالتطرف هنا العمل على فرض الفكر بالقوة] قد قضوا على قاعدة الفكر العقلاني الحر في الفكر الإسلامي، من حيث أرادو توسيعها، وغذوا الهجوم الكاسح على العقل في حياتنا الذي ما زلنا نعاني تبعاته الآن.
إننا لا نقول بأنه لولا شطط هؤلاء النفر من المعتزلة كانت الغلبة ستكون للعقل في مسارنا الفكري، ولكننا نقول بأن نفوذ العقل كان سيظل معتبرا وفاعلا.

* اعتمدنا في هذا المقال، إضافة إلى ما رسخ في ذاكرتنا من قراءات متفرقة في هذا المجال منذ عقود، على: أحمد أمين، ضحى الإسلام ج2. تحقيق وتعليق: محمد فتحي أبو بكر. الدار المصرية اللبنانية. القاهرة.