Atwasat

الليبيون والهوية

سالم العوكلي الإثنين 19 مارس 2018, 12:04 مساء
سالم العوكلي

الليبيون يعتبرون أرضهم معبرا دوليا. لذلك، ومنذ حقب النزوح من الغرب إلى الشرق، ومن الجنوب إلى الشمال، وبالعكس، تبقى على هذه الأرض خليط منوي من كل حدب وصوب، وهذا الخليط الذي يجمعه مكان واحد لم يكن متجانسا على مر الزمن إلا تحت ضغوط قوى غاشمة خارجية أو محلية، ولعل تاريخنا المكتظ بالحروب الأهلية التي تعاد دوريا كلما تلاشىت أو ضعفت قوة الضغط الغاشمة التي ترغم العناصر المتناقضة على الانصهار مؤقتا، ولعل آثار القرى الأمازيغية القديمة المبنية على قمم الجبال وعلى حواف أجراف عالية، أو ما سميته "عمارة الخوف"، يؤكدان على مدى التشظي التاريخي الذي صاحب هذا المحتوى البشري لهذه الأرض المترامية.
حين نتحدث عن الهوية السياسية التي حددتها حدود جغرافية نكتشف عمق المصادفة التاريخية التي أنتجت هذا الكيان الذي ما انفك يتساءل بشأن هويته منذ قرن تقريبا من الأسئلة الموثقة وصولا إلى ما نشهده الآن من حمى بحث على الجذور، رغم توحيد هذه الخارطة بواسطة الضغط الاستعماري الذي حدد حدود ليبيا (الهوية السياسية) ككيان واحد، العام 1911، عن طريق مشروع الاستيطان الإيطالي، الذي رسم هذه الخارطة لهذا المكان الذي كان طوال تاريخه تقريبا منضويا تحت توسعات إمبراطورية مخترقة للحدود والثقافة والوجدان والأرحام الخصبة للنساء.
كانت حدود ليبيا إبان الحقبة الإيطالية محددة جنوبا وغربا وشرقا وظل الشمال مفتوحا على الهوية الغازية الجديدة التي اعتبرت ليبيا شاطئها الرابع، والذي فقدته مع شواطئها الثلاث بعد انتصار الحلفاء وعودة الشاطيء الليبي كحد شمالي رابع مع حصول هذا الكيان على استقلاله العام 1951.
العالم 1954 أجري أول إحصاء لسكان ليبيا والذي تمخض عنه حق الجنسية الليبية لكل من تواجد فوق الأرض فترة ذلك الإحصاء السكاني، كمصادفة أخرى للهوية، والتي شملت عددا من اليهود الليبيين الذين مازال هواهم يحن إلى ليبيا ويطرب لأنغام المالوف والمرسكاوي.
إبان المرحلة الملكية، طرح لأول مرة سؤال الهوية الليبية، أو بالأحرى، محاولة الإجابة عن هذا السؤال بشكل إجرائي من خلال أطروحة "الشخصية الليبية" إبان ترؤس السيد عبدالحميد البكوش لرئاسة الوزراء الذي لم تتجاوز مدتها العشرة شهور، معلنا عن مشروعه الوطني المتعلق بالليبيين كمجتمع له خصائصه التاريخية والجغرافية التي لا تقصي انتماءاته الثقافية والوجدانية الأوسع، أو ما سماه الشخصية الليبية التي تحكمها صلات انفصال واتصال بأبعادها الدينية والقومية والجغرافية المختلفة، وهو المشروع الذي أطاح به من المنصب في ذروة حمى القومية العربية التي كانت تبتلع بنهم شوفيني كل ذات جمعية تعلن عن خصائصها.
بعد الانقلاب استلم مفاتيح صندوق الرمال الليبي مخبول قادم من اللامكان محمولا على صدفة تاريخية أخرى، فتسكع بالهوية الليبية في شوارع الدنيا، معلنا كل مرة بملابسه الغريبة هوية المرحلة، وبين الفضاء الإسلامي والعربي والأفريقي والهندي أحمر والأصل الفاطمي، تلون الحاكم وتلونت معه البلد كحرباء مصابة بفوبيا الآخر العدو .فألغى اسم ليبيا، وألغى حدود الدولة بذلك الطلاء الأخضر الممتد من المحيط إلى الخليج في الخارطة القابعة خلف قارئ النشرة المبشر كل مرة بهوية جديدة.
بعد فبراير وسقوط النظام، وكردة فعل على ذلك الهلام الذي لون به القائد راية الهوية، تطرف الليبيون في هويتهم لدرجة أنها سرعان ما انفجرت إلى هويات وهويات داخل الهويات، وأوطان داخل الوطن، واستعادت الضغائن القديمة حيويتها من جديد بعد أن استيقظت خلايا التعصب النائمة بفعل مخدر الدكتاتور الذي حافظ على هذه الهويات القبلية والجهوية الصغيرة في إفريز مثلما احتفظ في الإفريز نفسه بجثث المعارضين له.
استعادت العصبيات المخدرة وعيها من جديد وأصبحت واقعا، وداخل الأقاليم استعادت القبائل عافية التعصب والعداء لبعضها البعض، وبدأ الليبيون من جديد يبحثون عن جذور بعضهم البعض، ويرسمون داخل الخارطة خارطة جديدة لنتائج تحاليل الدي إن أي التي يجريها الحدس الشعبي، وبدأت حمى إحالة الآخر المختلف إلى أصله التركي أو اليهودي أو الألباني أو اليوناني، مثلما افترض هذا الحدس العقابي يهودية أصول القذافي يوما ما.
ولم تعد الهوية وهما لابد منه فقط لكنها أصبحت شرا لابد منه.
هذا الاستعداد الدائم للتشظي، وانفصال العناصر، حين تزول قوة الضغط الجامعة لها، ناتج عن فشل الدولة الليبية منذ نشأتها على خلق حالة انصهار وطني حقيقي، تحل فيه المواطنة الناتجة عن الجنسية محل الولاءات الجزئية، وتحل فيه دولة القانون محل العصبيات التي تبحث عن حماية للفرد ضمن قطيع في غياب الذات المستقلة قانونا. وهذا ما جعل الليبيين في العقود الأخيرة يصابون بحمى البحث عن انتماءاتهم القبلية أو العرقية حتى في قلب المدن والحواضر. الانصهار الوطني لا يتحقق إلا حين يكون التمتع بجنسية هذا الوطن تمتعا حقيقيا، يغني الإنسان عن أي قطيع صغير يهبه نوعا من الأمان يسعى لتوريثه لأبنائه. لا يمكن أن نبني مشروعا للانصهار الوطني إلا في فضاء ديمقراطي، ودستور يضمن حق المواطنة، وتنمية بشرية ومكانية، وتعدد الموارد الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، وإدارة الدولة والمجتمع بشكل يجعل مصالح الجهات والفئات والأفراد متكاملة وليست متضاربة.
كل ذلك قد يحد من شيطنة هذا الوهم المسمى هوية أو هويات تتماحك داخل الهوية المفترضة، وما يترتب عنها من مخاوف من المركزية أو مشاعر بالاضطهاد لدى الفئات المهمشة، أو الأقليات التي من المفترض أن لا يتعامل معها الدستور بهذا المسمى حين تكون المواطنة داخله مقدسة، وحين تكون حرية الاعتقاد مكفولة، فكل دستور يقنن هوية الدولة من جانب قومي أو ديني يحمل بذور فساده في داخله كمدونة حقوق تخص أجيالا متتابعة في عالم يتغير بسرعة وتتغير فيه فضاءات التفاعل.