"لماذا كانوا يريدون قتلنا؟ لماذا قتلونا؟" هكذا يتساءل هينتا غورغي ذو الـ 83 عاما والذي ينتمي إلى شعب الغجر "الروما"،وكان من بين الناجين من أعمال الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون، أو ما يعرف بـ الهولوكوست.
عندما كان في الثانية من العمر، اقتيد غورغي إلى معسكر في تراسنيستيريا، وهي منطقة واقعة بين نهري دنيستر وبوغ، وكانت خاضعة لإدارة مملكة رومانيا بين عامي 1941 و1944، خلال الحرب العالمية الثانية.
يقول غورغي: "لا أتذكر الكثير عن الرحلة نفسها، رغم أنها تركت آثارها على كياني بأكمله".
يشار إلى أن حوالي 11 مليون شخص لقوا مصرعهم جراء سياسة الإبادة الجماعية النازية. خمسة ملايين من هؤلاء كانوا من غير اليهود.
يقدر المؤرخون عدد الأشخاص الذين قتلوا من الغجر الروما والسينتي خلال الهولوكوست بنحو 250 ألف إلى 500 ألف شخص. لكن لا يزال هؤلاء الضحايا منسيين بشكل كبير.
كان النازيون يعتقدون أن الألمان ينتمون إلى العرق الآري الذي كانوا يرون أنه متفوق على كافة الأعراق والأجناس البشرية الأخرى. بعض الأشخاص كان غير مرغوب بهم بمقاييس النازيين، بسبب أصولهم العرقية أو الثقافية أو لإصابتهم ببعض الأمراض. من بين هؤلاء اليهود، الغجر، البولنديون، السلاف، والأشخاص المصابون بإعاقات ذهنية.
وكان من بين الضحايا الآخرين شهود يهوه والمثليون الجنسيون ورجال الدين المنشقون والشيوعيون والاشتراكيون والـ"لا اجتماعيون" (مصطلح استخدمه النازيون لوصف الأشخاص الذين لا يلتزمون بأعرافهم الاجتماعية) فضلا عن الخصوم السياسيين.
يقول غورغي: "فقدت والدتي بعض أطفالها أثناء سفرها على متن قطارات نقل الماشية، وأظن أنها تركت جزءا من كيانها هناك إلى الأبد، حتى بعد مرور العديد من السنوات وتحول كل ذلك إلى مجرد ذكرى".
"كنا نعرف ماذا يجري في المعسكر حتى قبل أن نصل إليه. كثيرون لقوا حتفهم في الطريق. كانت هناك أعداد غفيرة من الناس الذين حشروا على متن قطارات صغيرة مصممة لنقل الماشية".
أسس النازيون "المكتب المركزي لمكافحة الإزعاج الذي يتسبب فيه الغجر" في عام 1936. وعهد إلى ذلك المكتب، الذي كان مقره في مدينة ميونخ، "تقييم نتائج الأبحاث البيولوجية العرقية" التي أجريت على السينتي والروما.
بحلول عام 1938، كان قد بدأ ترحيل السينتي والروما إلى معسكرات الاعتقال النازية.
ومثلما حدث لليهود، فقد حُرم هؤلاء أيضا من حقوقهم المدنية. مُنع أبناء الروما والسينتي من الذهاب إلى المدارس الحكومية، في حين أن البالغين كانوا يجدون صعوبات متزايدة في الحصول على وظائف أو الاستمرار في وظائفهم.
وكان الروما يشكلون عدة قبائل أو شعوب مرتحلة، ويعتقد أنهم ينحدرون في الأصل من منطقة شمال غرب الهند.
غالبية الروما الذين استوطنوا في ألمانيا ينتمون إلى شعب السينتي، وقد تعرضوا للاضطهاد على مدى قرون. واصل النظام النازي اضطهادهم، إذ كان يعتبر الروما أدنى من الألمان من الناحيتين الاجتماعية والعرقية.
يقول غورغي متذكرا ما حدث: "لم يكن أحد يكترث بنا، لكنهم في الوقت ذاته كانوا يكرهوننا بشدة".
بحلول عام 1943، كانت هناك بالفعل مساحة كبيرة من موقع معسكر اعتقال أوشفيتز-بيركيناو مخصصة للسينتي والروما الذين رحلّوا إلى هناك.
يقدر عدد المعتقلين بنحو 23 ألف معتقل. الكثير من هؤلاء كانوا ضحايا للتجارب الطبية، في حين توفي آخرون جراء الإرهاق أو قتلوا داخل غرف الغاز.
تم تفكيك الموقع في أغسطس/آب عام 1944. غالبية المعتقلين إما قتلوا أو نقلوا إلى معسكرات أخرى. وفي النهاية، كانت محصلة القتلى من الرجال والنساء والأطفال 21 ألف قتيل.
عندما عاد هينتا غورغي وأفراد أسرته الآخرون الذين نجوا من معسكرات القتل بعد ثلاث سنوات عصيبة، وجدوا أن منازلهم في رومانيا إما هُدّمت أو استولى عليها أناس آخرون.
"لقد جردونا من إنسانيتنا، والأسوأ هو أنهم لا يزالون يحرموننا من تاريخنا، فالكثير من الأطفال اليوم لا يعلمون شيئا على الإطلاق عما حدث، لكنهم فقط يستمعون إلى أغاني جداتهم اللاتي يتذكرن ما حدث ويبكون وهم يغنون".
"أغنياتنا مثقلة بمعاناتنا، بتلك الظروف المدمرة في المعسكر التي كانت تفوق قدرة المعتقلين على الاحتمال. القذارة، الجوع، البرد، غياب المأوى المناسب..الاكتظاظ الذي يؤدي إلى أمراض بطيئة ومؤلمة".
تقول الدكتورة باربرا ورنوك، كبيرة أمناء مكتبة فينر للهولوكوست في لندن، إن الإقصاء الاجتماعي والتفرقة المقننة اللذين كانا موجودين داخل المجتمع الألماني سهّلا بشكل كبير على النازيين استهداف مجتمع الروما.
"أولا، بدأ الأمر كنوع من الاستمرارية للإجراءات والمواقف المنحازة التي كانت موجودة بالفعل. كان النازيون يضيفون إلى البناء التشريعي القائم آنذاك. كان شعب الروما مجموعة مهمشة للغاية داخل المجتمع الألماني".
تشير الدكتورة ورنوك أيضا إلى غياب السجلات الرسمية للروما خلال الحرب العالمية الثانية.
"هناك الكثير من الغموض والالتباس فيما يتعلق بالأعداد. بعضهم قتل في معسكرات الموت، الكثير منهم لقي حتفه في عمليات إطلاق نار جماعية، ولا سيما في المناطق السوفيتية. الجيش الألماني حلت محله مجموعات "الأينزاتس غروبن" (وهي كتائب موت شبه عسكرية تابعة لألمانيا النازية)، وكان هناك سكان محليون متواطئون في عمليات إطلاق النار الجماعية".
فور انتهاء الحرب، ألقي القبض على العديد من كبار المسؤولين النازيين وحوكموا أمام محاكم عسكرية، وضمن محاكمات نورمبرغ. في تلك القضايا، لم توجه لشخص واحد اتهامات بقتل الروما. وكان النازيون عادة ما يزعمون أن "الأشخاص الروما الذين اعتقلوا كانوا مجرمين".
بالنسبة لغورغي، التفرقة التي واجهها هو وغيره من الروما في البلاد باعتبارهم "أجانب" لم تكن مقصورة على النازيين.
في أعقاب سقوط الشيوعية السوفيتية، غادر غورغي رومانيا متجها إلى ألمانيا.
لكن بعد شهور من وصوله، وجده نفسه محاصرا وسط هجوم وحشي معاد للأجانب في عام 1992، ذاك الهجوم الذي عرف آنذاك بأعمال شغب "روشتوك-ليشتينهاغن" خلال شهر أغسطس/آب من ذلك العام.
كانت تلك أسوأ أعمال عنف يرتكبها اليمين المتطرف في ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. فقد استهدف المتطرفون اليمينيون المهاجرين خلال أعمال الشغب، حيث ألقوا الحجارة والزجاجات الحارقة على بناية سكنية كان يقطنها بعض طالبي اللجوء.
يقول هينتا غورغي: "شيء حزين جدا أن من خلفوا الأشخاص الذين تسببوا في الكثير من المعاناة ساروا على نفس النهج. أطفالنا يستحقون ما هو أفضل من الكراهية والغضب".
هناك أفراد من الجيل الجديد من ذرية ضحايا الهولوكوست المنسيين مهتمون بمعرفة تفاصيل المعاناة التي ذاقها أسلافهم.
إيزابيلا تيبريادي، حفيدة شقيق هينتا غورغي، لم تكن قد ولدت بعد عندما واجهت أسرتها الهجمات المتجددة التي كانت نتاجا لعقيدة النازية الجديدة في ألمانيا.
درست تيبريادي تاريخ الحرب العالمية الثانية والهولوكوست في المدرسة ، لكن معاناة الروما محذوفة، على حد قولها. وفي موطنها برومانيا، سعت إلى استكشاف المزيد عن ذلك الماضي، وقررت دراسة قوانين حقوق الإنسان والقانون الدولي، مدفوعة برغبة في تحقيق العدالة.
تقول: "اكتشفت أن أجدادي وأعمامي وكثيرين غيرهم مروا بنفس التجربة. فقد رُحلوا إلى معسكرات الموت، فقط لكونهم روما".
وتضيف أن "المعلومات ليست متوفرة للأجيال الجديدة، فهناك نقص في التمثيل، ونادرا ما يسعى الشباب الصغار إلى التواصل مع ماضيهم وجذورهم. بل إن بعضهم يعتبر الانتماء إلى الروما شيئا سيئا".
تعمل إيزابيلا تيبريادي لدى منظمة "انظر ولا تنسى" الشبابية التي تهدف إلى نشر الوعي بما حدث لشعب الروما خلال الهولوكوست.
تريد تيبريادي أن يتعلم شباب الروما وغيرهم من الشباب المزيد عن الهولوكوست، وتأمل أن يؤدي ذلك إلى أن ينظر الآخرون إلى أبناء شعبها بمزيد من التعاطف.
كما أن هناك جهودا دولية تسير في هذا الاتجاه.
في عام 2015، دعا تقرير للأمم المتحدة إلى التزام سياسي قوي وملموس بمكافحة التحيز والتفرقة اللذين لا يزالان ينتهكان حقوق شعب الروما.
كما أن الاتحاد الأوروبي وافق عام 2015 على إحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست من الروما الأوروبيين في الثاني من أغسطس/آب. كما يتم الإشارة إلى الروما إلى جانب غيرهم من الضحايا خلال اليوم العالمي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست.
تقول تيبريادي: "لا نستطيع تغيير الكثير بين عشية وضحاها. فالأمر يحتاج إلى المزيد من الوقت والتصميم والكثير من الجهد. نحن بحاجة إلى تقبل الآخر وإلى التسامح".
"إننا بحاجة إلى الاحتفاء معا بثقافتنا وتاريخنا ولغتنا، وإلى أن نتحدث مع بعضنا بعضا وليس عن بعضنا بعضا".
يعيش شقيق جد تيبريادي الناجي من المحرقة هينتا غورغي حاليا في كرايوفا برومانيا. ولدى غورغي أمنية يأمل في أن تتحقق لأبناء مجتمعه:
"أريد أن يذهب جميع صغار الروما إلى المدرسة وأن يتعلموا ويحققوا ما لم نستطع نحن تحقيقه".