Atwasat

العماري: عندما يتورط الشاعر في التنظير لتجربته كمن يفسد قهوته بزيادة السكر

طرابلس - بوابة الوسط الجمعة 14 أبريل 2023, 09:47 صباحا
WTV_Frequency

 

يبحر الشاعر مفتاح العماري في تخوم القصيدة محملا بأسئلتها ومثقلا أيضا بأوجاع خصوصيته الإنسانية. وإذا كان منحى النص الإبداعي يحاول أرشفة الطقس الوجودي العام فإن القصيدة منذ ولادتها الأولى كانت ماثلة في سيرة التجربة البشرية منذ هوميروس وحتى (رحلة الشنفري).

لذا كيف نرى تمظهرات النص الشعري وفق إيقاعاته المعاصرة، وما هي أبرز تجلياته من منظور اللغة والأفكار والصور، وعلى ذلك حاولنا استنطاق جانب من رحلة القصيدة العربية والليبية تحديدا عبر سيرة العماري ذاتها. فكانت الإجابة مسهبة وثرية في حوار مع الشاعر تنشره «الوسط» على جزءين:

• هل حاولت في ديوانيك «رحلة الشنفري» و«المقامات»  استرجاع ذاكرتك البعيدة؟ أم إعادة صياغتها؟ أم هروب من مواجهة الواقع؟
أحيانا أشعر كما لو أنني آخر، ولعلها لحظة بالغة الارتباك، وأيضا بالغة الحيرة والقلق تلك التي نضطر فيها للحديث عن أنفسنا. وستبدو المسألة برمتها أكثر ارتباكا كلما تعلق الأمر بالكتابة، ولا سيما الشعر تحديدا بوصفه التجربة الغائرة في الطبيعة الشخصية للمؤلف؛ فمن جهة قد ينجر الشاعر في هكذا أحوال للتواطؤ مع نرجسيته وإيقاظها بشكل مخجل إلى حد التورط فيما يشبه تزييف نفسه عبر إضفاء أدوار موهومة كالريادة والتجديد والتجاوز وانتحال سير ومقولات ومفاهيم لا أثر لها في خبراته وتجاربه وذائقته ومن ثم الدخول دونما حياء في منطقة من الكذب والرياء والاستعراض، وفي المجمل تحميل تجربته أكثر مما تتحمل. بحيث قد تدفعه أسئلة الصحافة وبقوة لتقمص أو تمثيل دور المفكر أو الناقد وحتى المناضل في أحيان أخرى.

للاطلاع على العدد 386 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

تتوقف علاقة الشاعر بقصيدته عقب الانتهاء من كتابتها. ويمكن له إذا كان في وسعه توصيف سلوك الكتابة ضمن مظاهرها في بعدها الشخصي. لكن ليس من الإنصاف في شيء أن يتورط في التنظير لتجربته، أو أن يتوغل معرفيا في تأويل موضوعات وأفكار نصوصه؛ فسيكون كمن يفسد قهوته بإضافة المزيد من السكر. أظن أيضا بأنه سيفشل في تقديم نصف إجابة مقنعة لهكذا سؤال افتراضي. وهنا اسمح لي بالإشارة أولا بأنني كشاعر لا أضع أية خطاطة لهندسة قصيدتي من حيث شكلها ومحتواها, لأنه ستفسد اللعبة تماما إذا ما لجأ الشاعر لاستخدام أي نوع من المساطر لتحديد أو تفصيل مقاسات بعينها.

ينتمي الإبداع لسلالة الفطرة؛ أي لبصائر الحدس والحلم والتخمين. ولعل جزءا من مبعث حيرتي أن السؤال يوقظ نصوصا كتبتها في فترة قديمة نسبيا؛ بعضها يناهز العقد الرابع، وبصورة خاصة قصائد المجموعة الشعرية «كتاب المقامات». لربما عندما توضع القصيدة خارج لحظتها، سيتعذر حينها استخلاص معرفة منصفة، في وسعها استنباط شيء من داخل المقروء بوصفه خطابا إبداعيا، له خصائصه وانفتاحه على التفاعل والشراكة وقابلية التأويل.

وإن كنت أظن بأن محفزا هكذا سؤال هنا؛ ينطلق تحديدا من افتراض مقاربة للعناوين لا متونها. لأن كلا المجموعتين الشعريتين: «كتاب المقامات» و«رحلة الشنفرى» لا تنشغل قصائدهما بموضوعة الذاكرة، كنوستالجيا، بل يمكن التخمين أن من أسباب لجوئهما للماضي، تأتي بدافع تحصين الذات من ضراوة الراهن. فقط العناوين وحدها -كما أظن - والتي عوضا أن ينظر إليها بوصفها مفاتيح دلالية، تلمح للشكل في «كتاب المقامات» بينما في «رحلة الشنفري» تندرج كإشارة مجازية للمنفى النفسي، أي غربة الشاعر وعزلته، إثر محاولة الخروج عن القطيع، كضرب من الدفاع عن الذات إزاء متوالية الازدراء والنبذ.

وهنا يتعلق الأمر من جهة أخرى بالشعر الذي فتر حضوره الوجداني ولم يعد يمثل لدى الذاكرة الجماعية المعاصرة تلك الفعالية المعرفية سواء أكان في الشرق أو الغرب. وإن بدا الأمر في ليبيا بصورة خاصة أكثر قساوة عندما يفقد الشعر اعتراف المجتمع ممثلا في مؤسساته الثقافية والإعلامية. كما يمكن اعتبار اللجوء للذاكرة كمحاولة لتوصيف التيه من موقع الشاعر لا المفكر الاجتماعي. وبالاستناد إلى القصيدة نفسها (قصيدتي) لا أثر يشي بشبهة الهروب من مواجهة الواقع؛ فقط، لعل العناوين وحدها هي من فخخت لحظتها بالماضي.

• في نصوصك يبدو نداءك دائما إلى المؤنث في ماهية غير واضحة أحيانا، هل هي القصيدة الهاربة، أم المرأة؟
لو أشرت إلى قصيدة بعينها لأتحت لي تحديد إجابة أكثر وضوحا، لربما يكون في وسعها الاقتراب من ملامسة السؤال. لكن عبر هذا التعميم سأسوغ أنا الآخر استئناسي بتأنيث المخاطب في العموم، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار بأن رمزيته لا تنحصر في حدود التأويل الفرويدي ضمن حيزه البيولوجي والنفسي. مع التأكيد على الإنصاف يقتضي بالضرورة العودة الى النصوص الشعرية لمقاربة التأنيث بالقدر الذي تسخو به لغة الكتابة وحمولاتها الدلالية.

للاطلاع على العدد 386 من جريدة «الوسط».. اضغط هنا

طالما علامات التأنيث ستختلف حسب الحالة الشعرية بين قصيدة وأخرى، فعلى سبيل المثال ثمة تباين دلالي، بين قصيدة «شهرزاد» و«السلطانة»، وأن المرأة التي سنتعرف عليها في قصيدة «نساء النثر» ليست هي نفسها التي تجلت من قبل في قصيدة «الشيطانة النائمة». وفي كل الأحوال، حتى لو تعلق الأمر باللجوء إلى استخدام التحايل الرمزي، كقناع، فإن المسألة برمتها تحتمل تعدد التأويل وتنوعه واختلافه وفق زاوية النظر النقدية ومستويات القراءة، بحيث قد ينسحب التأنيث على المرأة والقصيدة معا، وفي الآن نفسه في الإمكان إذا شئنا أن يتسع لإيواء لكل ما يعول عليه؛ لتأنيث المكان حسب رؤية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

• في ديوانك «حياة الظل» تقول في نص (بين الوردة وتاريخها) إن موت الشاعر هو غياب الضوء عن جهة الحلم، أنت هنا تنتصر للميتافيزيقي على حساب المحسوس؟
«حياة الظل» كتاب تنوعت مقترحاته؛ ففضلا عن القصيدة استأنست الكتابة فيه بالنسق السردي، لتظهر في حيز كبير منها قريبة النسب بالحكاية، وربما بالمقالة السردية المعنية بإعادة تدوير الحكاية، كمسعى للتأمل. وهي (أي نصوص الكتاب) في المجمل لا تندرج ضمن هوية بعينها. فحتى المقترحات الشعرية القليلة نجدها بقدر استئناسها لقصيدة النثر قد آثرت في الوقت نفسه اعتماد أكثر من شكل؛ بينها الشذرية. والقصيدة الحكاية.

وكرس هذا الكتاب نمط (اللا هوية) والذي سبق واعتمدناه في أكثر من إصدار، ولا سيما: «نثر الغائب» و«نثر المستيقظ». حيث تتمتع مقترحاتهما بقدر وافر من تنوّع الشكل الفني الذي يجمع بين تكثيف الشعري والحكائي، كنت أعول في هكذا محاولات على قيمة الأشكال بوصفها مضامين، أي على العلاقة التفاعلية والتكاملية بين مظاهر الأضداد في هوية النص، خارج تلك المفاهيم التقليدية في ثنائية الشكل والمحتوى، باعتبار أن الشكل بنية دلالية لا تحتمل الفصل عن المحتوى كأفكار ومتعلقات تشي بأبعاد سوسيولوجية. وفيما يتعلق بقصيدتنا «بين الوردة وتاريخها»؛ فإن اجتزاء لقطة سريعة من مشهد الموت الافتراضي للشاعر، سيحجب حيّزا كبيرا من ثراء المشهد وحياة الصورة، ومن ثم سيتعذر تأويل المقروء عبر هكذا تقطيع. في الختام يظل الشعر بوصفه خلقا إبداعيا في منطقة ما وراء الواقع.

والميتافيزيقا هنا لا تندرج في قائمة الشبهات التي ينبغي التنصل من مثالبها؛ طالما لا يمكن فصل المخيلة عن الواقع، بحيث يتعين علينا الأخذ بنظرية التكامل، التي تتحقق فيها الأشياء بأضدادها كعامل ضروري للجدل والحركة والنمو.

• نلمس في نصوصك وقعا صوفيا يظهر أحيانا في شكل أسماء أو عبارات، هل يعكس ذلك مقاربة في فهم كنه الاغتراب أم تخفيف لمعاناته؟
على نحو ما تبرهن لنا مدونة التصوف أن الشعر كان على مدار السيرة والتجربة والرؤى المعرفية شديد الارتباط بحركة التصوف. ولعله من البديهيات الإشارة هنا إلى فكرة الاغتراب ليس بوصفها مادة نظرية تستدعي الفهم، بل التعبير عنها كحالة مركبة يخوض المثقف والأديب، والشاعر على وجه التحديد صراعا مريرا خلال محاولة التغلب على معاناتها. ولعل أعراض الاغتراب ومظاهره تبدأ من اللغة، ليس تلك التي نتخاطب بها، بل التي نعبر بواسطتها عن رؤانا.

من هنا تنشأ أسباب العزلة والخروج عن القطيع. ولعل عملية هضم وتوظيف ميراث التصوف كتجربة وجدانية وفكرية يندرج ضمن أهم المرجعيات لذاكرة الشعر، سواء أتعلق الأمر باللغة أو بمآلات أخرى ذات ابعاد جمالية، وحتى فلسفية.

عدد من مؤلفات العماري.
عدد من مؤلفات العماري.
كلمات مفتاحية

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
منصور بوشناف: مشروعي الحقيقي النبش في الموروث المعرفي الليبي
منصور بوشناف: مشروعي الحقيقي النبش في الموروث المعرفي الليبي
الشرطة تغلق شكوى قدمها مصور ضد والد تايلور سويفت
الشرطة تغلق شكوى قدمها مصور ضد والد تايلور سويفت
عزالدين الدويلي في تجربة أولى للتأليف والإخراج
عزالدين الدويلي في تجربة أولى للتأليف والإخراج
فيلم عن سيرة بوب ديلان بطولة تيموتيه شالاميه
فيلم عن سيرة بوب ديلان بطولة تيموتيه شالاميه
في الذكرى الـ 90 لرحيله.. محمود مختار «أيقونة» فن النحت المصري
في الذكرى الـ 90 لرحيله.. محمود مختار «أيقونة» فن النحت المصري
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم