Atwasat

«فبراير» في عامها الثاني عشر.. البحث عن مكامن للضوء

القاهرة - بوابة الوسط الجمعة 17 فبراير 2023, 02:22 مساء
WTV_Frequency

 ما زالت الذاكرة الجمعية الليبية وهي تعايش المناسبات السنوية لمنعطف فبراير الذي بدأ شرارته 2011، تحاول توصيف ما جرى بعيدا عن الجوقة العاطفية التي سادت البدايات لتتحول إلى تبصر أكثر مع توالي السنين باحثة عن مكامن العطب وسر الهزات المتكررة في مشهدها السياسي.

 ولا يبدو هذا النضج قادرا على حلحلة الركود بحكم أن البصيرة الشعبية واقعة في قبضة أجندة المنتفعين من تجار الحروب والمضاربين في سوق الأزمات، والمال الفاسد المتعايش على فوضى الانقسام والمختبئ خلف شعارات الوفاق.

-  احتفالات شعبية ورسمية.. وذكرى ومطالب لم تتحقق

ومن جانب آخر لا يمكن فصل تبعات الزلزال السياسي عن ارتداداته في المشاهد الأخرى، ومنها الثقافي الذي بدى كتابه في استنهاض الأسئلة التي ظلت ساكنة لعقود تحت سطوة الأيديولوجيا ورفع مستوى رؤيتها من الذاتي إلى العام، لعل أبرزها الباحثة عن دور المثقف في الثورة، قبل وبعد، وقبل كل ذلك محاولة توصيف علاقته بما هو سياسي من حيث مساءلة الذاكرة ولملمة شتات سيرته الذاتية، خصوصا من طالتهم السجون أو وجدوا أنفسهم في المنفى، مثال «مذكرات سجين ليبي» للدكتور عبدالقادر الفيتوري، ورواية «يوميات زمن الحشر» للأديب الدكتور صالح السنوسي التي توثق لفترة عصيبة مرت بها ليبيا، ورواية «طريق جهنم» عن سيرة السياسي علي العكرمي في السجن لمدة ثلاثين سنة تقريبا، وكتاب عبدالفتاح البشتي «المحنة الملحمة: 15 سنة في سجون القذافي»، ومطبوع «القبر المتحرك.. حرب تشاد» للعميد عمر الوحش، وكذلك مؤلف «خفايا وأسرار حرب تشاد 1976-1995» للعميد علي محمد أبوقصة.

واتجهت المطبوعات الوليدة إلى احتضان النصوص والمقالات المتشابكة مع الشأن العام ومتابعة ملامح حياة أدبية تنهض على مهل للتعبير عن نفسها كما في جمعية «أركنو»، لتلحقها فيما بعد مجموعة «تنوير» وتجمع «تاناروت للإبداع» وغيرها، بالإضافة إلى تنادي الكتاب في أكثر من اجتماع لإحياء رابطتهم التي أوقف نشاطها بفعل القوة القاهرة.

عزل ثقافي
سنة 2013 أصدر المؤتمر الوطني العام قانون العزل السياسي الرامي إلى منع كل من تولى مسؤوليات ووظائف في عهد النظام السابق، تولي مناصب قيادية في مؤسسات الدولة لمدة عشر سنوات.

وأثار هذا القرار جدلا واسعا في الشارع الليبي بمختلف شرائحه، ولم يكن المثقفون بعيدين عن ذلك في شقه الأول الذي يستنكر إقصاء قدرات يستدعي وجودها في مرحلة التحول من الثورة إلى الدولة، ورؤيا أخرى طرحتها مجلة ثقافة الصادرة آنذاك في ملف تحت عنوان «العزل الثقافي.. من يعزل من» والمقصود هنا كما جاء في مقدمة الملف بالمجلة «ماذا عن العزل الذي يشمل مجموعة الشعراء والكتاب والمغنيين والممثلين والمخرجين.. إلخ اشتركوا في تمجيد أيديولوجية النظام السابق، وإذا كان من غير المقبول سن قانون تشريعي للعزل الثقافي بحكم أن الفعل الثقافي كيفما كانت تنويعاته متصلا مباشرة بحجة التعبير، فهل يمكن ممارسة فعل العزل الثقافي الضميري الأخلاقي دون سن قانون رسمي؟».

وكانت الإجابات متباينة بين من يرى أن المثقف ليس بيده سلطة تنفيذية أو تشريعية، فمجرد حرمانه من هذا يعد سلوكا ديكتاتوريا، وآخر يرى عدم إهمال الجانب الثقافي الذي أسهم في ترسيخ ثقافة الاستبداد. يحدث هذا الحراك من ردود الأفعال على أرضية حوارية كانت في طريقها إلى استعادة خيوطها الضائعة وتجسير جدل صحي لبناء لا يقوم على مبدأ الإلغاء بقدر ما يمنح للآخر فرصة الوضوح والمكاشفة، كما كان الموعد مع الاحتفاء بليبيا عاصمة للثقافة العربية العام 2014 ولكن.

فجر الظلام
لم تمض رياح التحول بما تشتهي سفن الأحلام، فعلى أرض ليبيا الموعودة بالزلازل قوضت حرب ما يسمى «فجر ليبيا» 2014 معادلة الممارسة الديموقراطية لصالح الأيديولوجيا مرة أخرى، وارتفع صوت الرصاص على لغة الحوار، وذهبت بالبلاد في مستنقع الانقسام، وبقينا في فزورة صراع الشرعيات المحزن بين المؤتمر الوطني ومجلس النواب والذي ما زلنا نتجرع نتائجه الكارثية حتى اللحظة.

 وتحت سماء هذا الغبار ظل الكتاب والمثقفون يحاولون الإطلالة برأي يدفع باتجاه يعارض الحرب ويسعى لتقليص الهوة، لكن دخان القنابل كان كفيلا لتعتيم أي مجال للرؤيا، كما أن مخالب الإقصاء تطاولت بقسوة على التيار المدني، حيث اعتقل «أدمن» الصفحات، وخطف إعلاميون وكتاب وقصفت قنوات بقواذف «الآربي جي» وأجبرت صحف على مغادرة البلاد.

وفي موازاة ذلك كانت أذرع التطرف تتمدد في بنغازي وبعدها سرت التي أصبحت في قبضة «داعش» سنة 2015، ولم يكن أمام الكتاب في ليبيا إلا المقصلة أو المنفى، ولم يكن الرجوع للأسف إلى نقطة الصفر مجرد خيار فقط لتفادي تسونامي العنف، وإنما فرضته ضرورات الحال التي لم تكن تسمح بأي فسحة للنور.

ربما يسمح لهذا بتفسير أوسع، وهو أن إشكالية الكاتب مع السلطة تاريخية بالأساس وتتجاوز السياسي إلى الثقافي والديني والاجتماعي، وبإدراك أن الإقصاء هنا هو لمنع تأثير المثقف في محيطه الذي تسعى السلطة الحاكمة لامتلاكه، نفهم معنى تغلل الإقصاء في لا وعي من يملك القوة الذي ترسخت في ذهنه حاكمية الفرد عبر أربعة عقود كاملة، مع وجود عامل آخر لا يقل أهمية وهو الوعي، حيث سنجد الطلائع المثقفة في غيابه مدفوعة مجتمعيا كما يقول القويري نحو المشفى النفسي.

نافذة للضوء
ورغم كل ذلك وبين إيقاعين متباينين، ظل المشهد الثقافي ممسكا بشمعة الأمل، رغم الارتباك والحيرة يؤثثه وجود نتاج من الكتابات الشابة وكذا قصائد لشعراء شباب تضج بالحياة والأمل رغم الخراب والدمار، بالإضافة إلى نصوص سردية رائعة على الصعيد الروائي نذكر منها «حرب الغزالة» لعائشة إبراهيم، و«علاقة حرجة» لعائشة الأصفر، و«زرايب العبيد» لنجوى بن شتوان، و«هكذا أراك» لمحمد التليسي، و«جاييرا» لسراج الدين الورفلي..

وبالتالي يمكن القول إن حركة النشر نشطت نسبيا رغم تعثرها، لكونها ارتبطت بظهور فيروس «كورونا» إضافة لحرب طرابلس، ورغم ذلك، فإن هذه المعوقات لم تمنعها من الاستمرار في برنامجها رغم بطئه، وأفرزت لنا الإصدارات المذكورة، واستطاع الإبداع الليبي أن يتجاوز محليته الضيقة ويفرض نفسه على المستوى الإقليمي بحصول رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» للكاتب الشاب محمد النعاس على جائزة البوكر للعام 2022، وترشح كل من الروائيتين نجوى بن شتوان وعائشة إبراهيم للقائمة الطويلة للجائزة لهذا العام، عبر روايتيهما «كونشيرتو قورينا» و«صندوق الرمل».

ولا يمكن إغفال مسار تنوير آخر وهو ازدهار الحركة التشكيلية في شكل معارض فردية وجماعية عبر فضاءات دار الفنون والفقيه وبيت إسكندر، ورغم أن الطابع المؤسساتي ظل في صورته النمطية والمقصود هنا وزارة الثقافة للأسف، حيث بقي دورها روتينيا يختص بتسيير القطاع داخليا إداريا وماليا. رأينا في مقابله ازدهار العمل الأهلي المتحرر من البيروقراطية الإدارية، متمثلا في نماذجه من المهرجانات الموسمية، وكذا الجمعيات الأدبية مثل «الليبية للآداب والفنون» و«منتدى السعداوي»، بالإضافة إلى نشاطات مكتبة اليونيسكو بسبها وغيرها.

إن السؤال الثقافي مستمر في مواجهة انسدادات الواقع الليبي بمستوياته واتجاهاته، كما يتقوى بالمطبات التي تعترضه في كل مرة، محاولا تفسيرها والغوص عميقا في تفاصيلها، وإن بدى سكونه في نظر البعض موتا سريريا، فهو توقف يستفز النهوض لا للانسحاب أو التراجع، لكون الثقافة هي الجدر الأثير الحاضن لكينونته وهويته وكلمة السر في وجوده على جغرافيا اسمها ليبيا. 

نقلا عن جريدة «الوسط» الأسبوعية

المشهد الثقافي في ليبيا بعد ثورة فبراير (الإنترنت)
المشهد الثقافي في ليبيا بعد ثورة فبراير (الإنترنت)

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
فنانون أيرلنديون يطالبون بمقاطعة «يوروفيجن»
فنانون أيرلنديون يطالبون بمقاطعة «يوروفيجن»
لأول مرة.. ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب في 2024
لأول مرة.. ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب في 2024
ذكرى الوحدة الوطنية تحت مجهر القبة الفلكية
ذكرى الوحدة الوطنية تحت مجهر القبة الفلكية
أولمبياد باريس: متحف اللوفر يقدم جلسات رياضية أولمبية
أولمبياد باريس: متحف اللوفر يقدم جلسات رياضية أولمبية
باكورة إصدارات «غسوف»: رواية ورياضة وتراث
باكورة إصدارات «غسوف»: رواية ورياضة وتراث
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم